ocaml1.gif
الكنيسة والسياسة 08/15/1992 Print
Saturday, 15 August 1992 00:00
Share

الكنيسة والسياسة 

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار، السبت في 15 آب 1992

تعلمت من المؤرخين المسلمين المعاصرين ان الفقهاء كانوا بعامة على مسافة من السياسة وانهم كانوا وجدان الخلفاء، ذلك ان من جعل فسحة بينه وبين الالتزام الزمني يستطيع ان يكون روح هذا الالتزام ورقيبه. وقد يكون ذلك ناتجا ايضا من كون الانسان المستغرق في العمل الدنيوي العام لا قدرة له كاملة ان يتنزه عنه او ان يستشرفه بحرية. غير ان الفكر الاسلامي وحده هو القادر ان يقول في هذا الشأن قوله. والفكر الاسلامي حي متجدد وجريء ونرجو منه الكثير. وان كان علي ان أدلي بدلوي فمن ضمن التأمل المسيحي اتكلم.

فمما لا ريب فيه - وكائنا ما كان التاريخ ووطأته - فالمسيحي، كل مسيحي اخروي اي انه ينظر الى شأن الارض من منظار الملكوت الآتي فلا يدمج بين الحالة الروحية والحالة الدنيوية. وهذه خاضعة لتلك وهي في اشراقها لا فرق هنا بين العلماني والإكليريكي. فكلنا نصيب الله وان كان على رجل الدين مسؤولية الارشاد والتذكير بما لله من حقوق على الانسان. فالمؤمنون في معيتهم اهل آخرة وكلهم في الأمر الإلهي فلا تستقل عنه السياسة وبعبارة أبسط لا تنفصل عن الأخلاق بل هي تعبير عنها في الشأن المجتمعي.

غير ان السياسة لا تخلو من إغراء وحسابات منافع. وانا لست بقائل ان من تعطاها يحيد عن الله ولكنها مكان خطر شديد فقلما يتنزه صاحبها عن الشهوة والغرض. وفيها دربة خاصة فتُحترف احترافا لئلا تكون نظرية بحتة. انها تدبير الواقع في كل مرارته وعثرتها الطبيعية المساومة ومن كُتب له ان يكون أبا روحيا ليَلد الناس بالحق لا يقع في المساومة ولكنه يذكر بمشيئة الله على طريقة الأنبياء فيرفع القوم عن ملحاحية يومياتهم ويعيدهم الى العدل وما يتصل به من قيم. كذلك يلطف فيهم جموح السلطوية.

رجل الدين المسيحي لا موقع له في السلطة لأن السلطة تحديدا اكراهية والأسقف اوالكاهن داعية يذكّر وليس على احد بمسيطر ولا يملك ادوات التحليل السياسي التي تقتضيها المتابعة الدؤوب لشؤون الدنيا بما فيها من دقة ودراية. ولو افترضنا فيه الموهبة فالموهبة ليست المعرفة. ومن جهة اخرى هو يحسَب على طائفته وابناء دينه بعامة. قد يتحسس آلام جميع الناس ولكن التركيبـة اللبنانيـة لا تراه خادمـا لهـم معا. تعتبـره فئويـا متكيفـا بشحنـات مـن انتمى اليه بالعقيدة والمذهب او يراه اهل عقيدته معانقا كل القضايا لا قضاياهم. له الحق الطبيعي ان يتوجع ويصرخ ولكن الآلة الحاكمة لا تراه الا ممثلا لجماعة دون أخرى وتحاول دائما ان تعيده الى حجمه التاريخي، الى جزئية الوجود الوطني حتى يحس نفسه مندمجا بطائفة وحقوقها، ماشيا على دروب شهواتها ليس فقط ليدعمها زمنيا بل لتدعمه هي أيضا في ما له من سلطة.

***

انا قلت ان يتنزه. ما قلت ان يتجرد، ان يكون فاترا او باردا امام المصاعب في تدهور الوطن. فهو رجل محبة ولكن المحبة اصلا في القدوة وفي الخدمة الاجتماعية. انا لا اعزل رجل الدين المسيحي عن الارشاد في ما هو عام وشامل، لان في البلد قصّرا كثيرين. غير ان الدعوة النبوية الالهام في ما كان عطاء للبلد كله لا تعني الانخراط في العمل السياسي الذي منطلقه في لبنان المجتمع المدني. فكائنة ما كانت فلسفتنا سياسية المواقع معظمنا ارتضى ذلك الحكم الديموقراطي او ارتضيناه توقا في معية لا تفرق بين المسلم والمسيحي. ولو كان المجتمع لقاءهما بما فيهما من ثوابت الا ان الحياة الوطنية مليئة بالمتغيرات وامور المعاش اليومي التي تجعلنا بالحقيقة مجتمعا ان لم يكن حديثا الا انه يتوق الحداثة ولعبتها.

ان معاصرة الزمان وان نحيا في ضغوطه تضطرنا الى خيار الديموقراطية وتوازناتها الدقيقة فنصبو الى روح المواطنية في واقع لها انصهاري او شبه انصهاري، الامر الذي يجعل الروحيات مصدر نفحات اكثر منها مواقع محددة في جزئيات العمل السياسي. والناس ينتظرون من الموّجه الديني الكبير طراوة ورقة ورؤية ليتخلقوا اكثر مما ينتظرون توجيهات صريحة دقيقة في اسعار الخبز والمحروقات وإضراب يقومون به او لا يقومون. فإن تولية رجال الدين على هذه الامور وما يتصل بها من مواقف تفترض ان المواطنين لم يبلغوا ذلك النضج الذي يخولهم اتخاذ الموقف. المؤمنون ليسوا غنما تساق ولا ينوب عنهم المسؤول الروحي في الفكر. يكفيه ان يرفعهم بالدعوة ويلهمهم بالكلام الالهي الذي فيه كل الزخم ولكن ليست فيه كل الحلول. فالمسائل ارضية، تقنية تحتاج الى حكمة هذا الدهر والى مراس متوفر عند اهل هذه الحكمة.

ان اللجوء الى رجال الدين على انهم الفاهمون ميراث من هذه الحضارات القديمة التي كانت المعرفة فيها منحصرة في الكهّان يعرفون كل العلوم ولهم كل الدراية وتتمتع شخصياتهم بسحر خاص والناس كالمواشي تبايع شخصا او مقاما يفرض فيه الإحاطة بكل المعلومات الدولية والوطنية وعنده وضوح امام كل الأحداث، وقد يكون إخلاص رجل الدين كاملا ولكن الامر الزمني لا يكفيه الإخلاص. انه علم وفن وتنظيم.

***

واذا امتهن المسؤول الروحي السياسة يختلط الحابل بالنابل. فالداعية الموصي المذكّر يصبح ضاغطا حتى الإكراه ودوافع اتباعه لا تكون روحية فقط ولكنها دوافع المنفعة التي ترجوها من نفوذه. والنفوذ في الدولة لا علاقة له او قلّما كانت له علاقة بالهيبة الروحية. رجل الدين، اذ ذاك، قوة ضاغطة، جزء من الموالاة او جزء من المعارضة وله من هذه ومن تلك قوتهما وضعفهما. وله بالضرورة زعامة من هذه الدنيا تضعف من تأثيره الروحي او تحجبه. نحن في لبنان لا نميّز بين الإلهام الروحي والقوّة السياسية. هاتان لا تجتمعان حقا في نفس واحدة. فالولاء للأب الروحي هو غير الولاء له زعيما سياسيا. والناس يريدون لأنفسهم مكانة في مملكة قيصر ولا يريدون ان يكونوا في مملكة الله. يحبون انفسهم تحت قيصر. ومن ماشاهم في نزعتهم يرى نفسه آجلا ام عاجلا هو ايضا من هذا العالم.

وجود القائد الروحي مفارقة اصلا ككل الوجود الكنسي. انه ملكوتي تحديدا اذا اعتنق مسؤوليته واعيا وفي الوقت نفسه هو منقذ للناس في مصائبهم، طريح مأساتهم، موسوم بجراح التاريخ. انه تاليا سياسي بمعنى حضوره في صميم نسيج البشر. القيادة الروحية المسيحية مقولة ليس مثلها شيء وكثيرا ما ينحرف عنها من أُلقيَت على عاتقه اما بارتضائه الأخروية المطلقة - وهي موقع الرهبان - ام بزج نفسه في الاحتراف السياسي.

مؤخرا قال لي شاعر مسلم كبير تباسطت معه شؤون الساعة: الحياة المواطنية مختلفة في لبنان لأن اهل الحياة الروحية لا يتعاطونها. نحن لسنا بحاجة الى مواصلتهم الامر الزمني. نحن توّاقون الى روح تأتي منهم. قـلت في نفسي لا يمدّك بالروح الا من كانت فيه. هي وحدها الشيء الذي لا يُصطنع ولا يُخطئها احد ان بدت. إحساسي ان من خلا من زخم الأنبياء لا بد له ان يملأ فراغه بما يكشفه ذكيا. والسياسة مجال مثالي للتذاكي. من سُمّي رجلا روحانيا بحكم وظيفته ولا ينطق بقوة الله يكون الله قد غادره ولا بديل عن الله الا سلطة هذا الدهر وما يفترضها او تفترضه اعني المال. وببساطة كليا يعمل الانسان بضع ساعات في النهار ويصير ما يعمل وعمله يصير فكره. ان من هرب من فاعلية الإنجيل ومطلق الانجيل يرى في الدنيا فاعلية ويستسلم لها.

وعلى هذه الدروب يفيد المسؤول الروحي من سلطانه الالهي ليفرض من ورائه زعامة دنيوية. يأخذك باسم الله الى ما لم يكن له علاقة به او يكون عداوة لله. هذا الرجل تختلط شهواته البشرية بأحلامه "الروحية" وتلك مسألة عويصة شائكة في طبيعة الكنيسة. كيف تكون هذه عتبة الملكوت ومجال النور الالهي ومهتمّة لأمور الناس فيراهنهم؟ لا جواب عن هذا التسآل الا اذا استقطبت الرؤية الالهية فينا باستمرار كل هاجس آخر بحيث نكون في العالم ولكن غير مرتهنين له ورهبانيي الروح ولكن في حضور كامل في تركيبة هذا العالم.

نتجسد ولا نغرق في الجسديات. نحمل خطايا العالم ولكن لا نتنجس. الخدمة المرجوة من اهل الآخرة في الوطن هي ان يكونوا حقا اهل آخرة بحيث يحفظونها ويحفظون التاريخ بآن. انهم المسيح القائم دائما والصاعد ابدا الى الآب. السياسة فن لاهوتي. الحديث بالسياسة ترجمة اخرى للحديث بالله لئلا يصبح هذا العالم ملهاة - مأساة. لا تجاوز للمأساة الا بهذا الفرح العظيم الذي الرب منشئه فيك. المجتمع السليم يبدأمن الفرح.