ocaml1.gif
الحرية السياسية 08/22/1992 Print
Saturday, 22 August 1992 00:00
Share

الحرية السياسية   

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 22 آب 1992

الحرية السياسية ان هي الا تعبير عن احترام الحرية الكيانية الداخلية اي انها لاهوت يقول ان صورة الله في الانسان هي ايضا حريته. فالانسان ليس فقط خالق اعماله ولكنه خالق قلبه. الانسان سر يقول ان الله ليس مهيمنا على النفس البشرية. والسؤال الذي يطرح نفسه عند من قال بالجبرية والانهزام امام الله هو لأي شيء وُجدت هذه الحرية. لماذا التأكيد عليها وهي مصدر عذاب؟ غير انها ايضا مصدر فرح ومدّ انسانيتنا الى آفاق لا تحد وتاليا هي تشبه بالله الفائق الوصف والحد.

الحرية تبدأ بوعينا لمحبة الله لنا وبقصده ان يجعلنا على مثاله. فالله على مطلق طبيعته ينتسب الينا بالعطف كل علاقة انتساب. وقد لا يستوعب المرء ان الله لا يخسر شيئا من كماله ان هو دخل معنا في علاقة حميمية تجعله لنا عشيرا. افهم ان هذا الكلام لا يعني شيئا عند من لم يعرف هذه القربى. الواقع ان الأديان التوحيدية مهما اختلفت في الحديث عن مطلق الله كان فيها الروحانيون الكبار، بتعبير او بآخر، يتحدثون عن ان اللقاء مع الرب يتم في داخل القلب بلا حلولية. وليس من ديانة توحيدية تقبل بالحلولية بمعنى تخالط اللاهوت والناسوت او بمعنى استحالة تتم في الجوهر الالهي، ولكنها توحي، بشكل او بآخر، ان الله يلامس الكيان البشري ملامسة داخلية والا ما معنى الآية القرآنية: "ان الرسول حق" (آل عمران 68). هذا لا يمكن ان يرادف لغويا ان جاء بالحق الذي من الرب. مهما يكن من أمر تفسيري فليس من خبرة دينية اصيلة فيها شيء من الحرارة الا ويقول صاحبها انه مع الله في علاقة صميم وقد يقول انه في حالة عشق.

اجل الحرية في الأخير هي ان تتطهر لتسلم لله. ولكن بسبب من هذا الإسلام انت متحرر من الهوى. انت في عبودية الحب وما من عبادة الا في العبودية. واذا انعتقت من الهوى وادركت الحرية الكبرى كما يسميها أوغسطين فانت بالضرورة عازف عن القهر والعنت والعنف وتاليا مؤمن بالحرية السياسية.

هذا يمكن ان يستند الى لاهوت سيء، الى جحود، الى ان الحقيقة ليست واحدة عند الجميع. فانك ان أنكرت الخالق قد تقول بالتسامح وهو المبدأ الذي جاء به عصر التنوير في اوروبا وانصبَّ في الثورة الفرنسية. يأتي اذ ذاك القرار السياسي بالتقاء حقائق كلها نسبية ولا أثر فيها للمطلق. ولعل الكثير من الديموقراطية متصل بهذا. فخبرة نظم الاستبداد قبل الثورة جعلت الحرية السياسية مطلب المظلومين. الحرية جاءت من ألم ومن تعب وكأن الداعين اليها يقولون فلنتناقش لأن الأرض ليست موطن الحقيقة.

انا افهم موقف القائلين ان الكلام الالهي قد أُنزل ويحتوي كل شيء ويحكم في كل شيء. لذلك ليس من حرية لمن أتى بخلاف الكلام الالهي. انا اعرف معهم ان الحكم في الأشياء هو لله. ولكن ما حكم الله هنا على الأرض في جزئيات الأمور؟ لا أعرف كلاما قيل الا في صيغة بشرية وسياق تاريخي. فما العلاقة بين القصد الالهي وامور عدة نحيا فيها اليوم ولاشيء يشير اليها من بعيد او قريب في الكتب المقدسة؟ واذا افترضنا ان الكثير من امور دنيانا كشف الله حكمه فيها فما علاقة الثابت بالمتغير وهل صحيح ان مضمون الحضارة البشرية جاء كله مسكوبا في كلمات الاله؟ وهل ما يثبت بان ثمة قوما قادرين بطهارة لهم وعلم ان يربطوا الحاضر بالأبدي؟ فاذا كان الحكم بالحكام واذا كان الحكام يفسرون الكلمة الالهية فليس من حرية لمن احتُسِب غير فاهم للكلمة الالهية او غير قابل لها. الحكم الحصري بموجب ما أنزل كان بالضرورة ضد الحرية.

***

غير ان هذا لا يبطل ما أسلفت وقلته ان الديموقراطية الشاكة بالحقيقة الأبدية ليس لها اساس سوى اننا متساوون بالغلط. غير اني اريد ان اؤسس الديمقراطية على ان ثمة حقيقة إلهية او أخلاقا إلهية البعض يتخلق بها وبعض لا يتخلق. واهل الحق يتسامحون بوجود الخطأ وامتداده السياسي لأنهم يؤمنون بأن الخلاص لا يأتي الا من طريق الحرية. التسامح عندهم لا يعنى حيادهم عن الحقيقة ولكن حيادهم عن القمع. والإقلاع عن القمع يأتي من المحبة المجانية التي ان نزلت على انسان تكشف له الحق الكياني فيه وتمكنه من حسن السياسة.

المؤمن بالله يؤمن بالتاريخ اي بانكشاف الله في الزمان وتاليا بأن الحقيقة الأخيرة لا نعرفها الا في الحياة الأبدية او في الآخرة كما يسميها القرآن. وعلى هذه الأرض نلتمس الحق وفيما نلتمسه نتعايش.

ضد ذلك الطاغية الذي يعتقد انه وحده يملك الحقيقة الصالحة لسياسة الأمة وان اليه وحده أتت الحكمة. كذلك يذهب الى ان الأمة كلها فيه وانه يعرف صالحها وهي لا تعرف اي انه تحديدا رجل لا يؤمن ان احدا سواه خلق على صوره الله ومثاله وهو نصب نفسه مفسرا للعقل الالهي. ليس الطاغية بالضرورة ملحدا على الصعيد الذهني بل هو يذهب الى ان الله اختاره ليقذف النور للناس. كل طاغية، بطريقة او بأخرى يعتبر نفسه نبيا.

وقد يؤمن ان الامة هي الله وان الحقيقة في الأمة ولكنها حقيقة انتقلت اليه والناس بلهاء وهو الذي يشفيهم من البله فانه بسبب النبؤة يملهم. وهو لا يمارس الطغيان الا لإعتقاده بأنه طاهر. قد يقف على آراء بعض من المقربين ولكنه لا

يصغي الا لمن وافقه آراءه او ينقح التفاصيل. هو لا يقبل أن يجبهه احد فان من جبهه كان تحديدا ضد الرؤية "الالهية" التي رآها. ولذلك كان حتما عنيفا ومترصدا لكل كلمة تقال في البلد كما يترصد النبي الأصنام.

هذا إلهه مسيطر، منتقم. والطاغية اداة العقاب الذي ينزله الله في البشر. ولهذا اشتدت الديكتاتورية في البلدان التي تقول أديانها - عن حسن تفسير او سوء تفسير - ان الله متسلط. فالطاغية مثل الله "يُميت ويُحيي، ينزل الى الجحيم ويصعد منها". ولهذا عرف الطغيان بخاصة في الشعوب التي آمنت بالتوحيد حيث الله آحادي، يتكلم هو وحده. فليس غريبا ان الأبوية والذكورية والبطريركية كما يسميها الافرنج هي التي سادت الشعوب الموحدة. فاذا كان الله طاغيا فلا بد أن يكون له مثيل لأخلاقه في الأرض. ولهذا كان حظ الشعوب الموحدة انها شنت حوالي 58% من حروب التاريخ. فالحرب تُقاد دائما باسم الله ويقوم بها من حسب نفسه وكيلا له. ولا فرق بين أن يكون الحاكم بأمر الله مؤمنا على الطريقة الدينية او على الطريقة النازية او ماركسيا. فالفاشية والشيوعية إفرازان مسيحيان. انهما مسيحية بلا مسيح. أبقتا على سؤدد الله وصار الله منشيء حزب وعلى رأسه الزعيم. الإيديولوجية الكلانية دين في مضمون بشري بحت.

***

غير ان ثمة مسيحية ذلك القائل : "تعلموا منى اني وديع ومتواضع القلب" والقائل  "ان ملكوت الله في داخلكم" اي ان كل انسان قادر ان يستقبل الله وان المؤمن يلتمس إلهه في كل قلب أتأثر هذا بنصوص موحاة ام لم يتأثر. هذا الجو الإيماني يحضن الديموقراطية الحق التي تقول اننا لا ندين انسانا قبل ان نسمع منه. فنحن ننفتح لكل الأذهان لأننا نعايش كل الأذهان وكل اضطهاد لها تعسف لأننا كيف نكون في الحق ان لم نقم في المحبة؟ فالمحبة هي القوة الوحيدة التي تجعلنا نقبل الى شؤون الأرض بتواضع فنحن لا نملك التاريخ ولا نرتهن لبشر مهما كانوا  أذكياء. ذلك ان المحبة ترى ما لا يراه الذهن ولم يثبت الزمان ان ذهنا بشريا يدرك بانعزاله صالح البشر.

واذا كانت الحضارة الحديثة على التعقيد الذي هي عليه فلا يعرف مخلوق كل شيء في الثقافة والتربية والاقتصاد وما من أحد كلي الإخلاص ولو شاء ذلك لأن القضية ليسة طهارة نظنها فينا ولكنها مجموعة مساع ٍ الى الطهر. واذا كانت السياسة تتغير بتغير الفكر والتكنولوجيا فالانسان مقصر دون الرؤية الشاملة والعقل الفردي مهما ضخم عاجز عن معرفة الصالح العام.

المضحك في الديكتاتورية مدعاها ان فهمها للفن والأدب والعلوم والناس في تقلباتهم وارتباط كل هذا بنهج واساليب في الحكم هو الفهم الصحيح. ما يُضحك ويُبكي في آن هو الاعتقاد بأن السماء والأرض وما عليهما مقروءة في مجموعة خلايا دماغ واحد وان لا شيء يختل في هذا الدماغ. الحرية ونحن معطوبون روحيا وجسديا تبقى هي المرتكزة على تعددية الأفكار وفرادة البشر.

Last Updated on Monday, 17 January 2011 08:15