ocaml1.gif
وحدة الناس 11/14/1992 Print
Saturday, 14 November 1992 00:00
Share

وحدة الناس  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت في 14 تشرين الثاني 1992

من قريبي؟ سؤال طرحه على السيد لاهوتي يهودي. فحكى له حكاية السامري الشفوق والقصة ان انسانا وقع بين لصوص "عروه وجرحوه بين حي وميت" على الطريق النازلة من القدس الى أريحا وأبصره اثنان من جنسه وعبرا عنه ثم أبصره سامري غريب الجنس والدين واعتنى بأمره. وبعد ان سرد المسيح القصة رد على سؤال الاستاذ بسؤال: من ترى صار قريبا لهذا الجريح؟ قال "الذي صنع اليه الرحمة. فقال له يسوع: امض فاصنع انت ايضا كذلك". يجعل الانسان نفسه قريبا اذا اقترب. والقربى يجعلها الله في قلوب الذين اتبعوه "رحمة ورأفة ورهبانية" بمعنى الانصراف الى الله انصراف الرهابين.

قربى الناس بعضهم الى بعض فيها ان نسمو الى الآخر لكونه خليقة محبوبة بتلك المحبة المجانية التي لا تنظر الى انتساب له في الدين او العرق او الأدلوجة. اذ ذاك، نجعله في النفس مكنونا ومضمون عقيدته لا يحول دون ذلك. ونحبه اراد ام لم يرد، فهم ام لم يفهم.ان ما يحدث هنا وثمة من مجازر يجيء من اقصائنا الله وينتج من هذا اقصاء الآخر . ونحن نغلف الذبح الشنيع بشتى الاعتبارات القومية والتاريخية وتحت كل ذلك منافع في الارض ومن تحسس الارض وحدها يقتل الذي ينازعه عليها الملك ولكن من رأى ان الارض كلها لله كما يقول صاحب المزامير يرى تاليا انها للانسان  الاخر معه .  من ابصر الرب يبصر  بالضرورة  الآخر . لذلك كنا مع المذبوحين.  لنا ان نفسر  ونحلل ولكن هذا كله  لا يسوغ  الجريمة .  "لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك". سبب ذلك "اني اخاف الله رب العالمين" (سورة المائدة 28). لذلك كنا الى جانب اهل البوسنه والهرسك الذين يقتلهم الصرب.  الله مع الذين يموتون بوحشية الجزار.

واذا عدنا الى لبنان فالدعوة ان نستأصل جذور الموت . والله الذي اليه نعود هو وحده الذي يمكننا الا نبيد احدا جسديا او ثقافيا.  وعندنا هنا ان الاختلاف في   الدين لا ينشىء او لا ينبغي ان ينشىء اختلافا في المحبة. وهذه لا تأتي من  نصوص نفرضها على الناس باسم وعي قومي نفترضه. ان انتسابنا الى وطن واحد ينزل علينا من الله. وهذا يتطلب منا جهدا ارشاديا كبيرا لان الوطنية ليست مقولة سياسية. انها قناعة دينية ولو كان شرحها علمانيا. المناقب روحية المصدر ولو رسبت في التربية باسم  مقولة العلمانية.  فالعلمانية من العالم اي من الانتماء الحصري الى هذا العالم في حين اننا نخص الآخرة. بالنهاية كانت العلمانية فلسفة تنظيم سياسي، أدلوجة وهي في المراس الفرنسي لها الا نعتبر الانتماء الروحي للمواطن، ان نعمل  كان هذا الانتماء  غير قائم، ملهما الحياة المجتمعية  كما هي  الفصل بين الدولة  والمصادر الروحية التي ينتمي اليها الانسان وهي فصام بين المدرسة والتعليم من جهة والوحي الروحي الذي يجب ان يرتكز عليه هذا التعليم. وكان المراس الانكلوسكسوني لها ان امورك كلها تجري دون الرجوع الى الله  اي بإهماله مرجعا للحياة. ولذلك سميت عندهم secularism بمعنى انك  تجيء من هذا الدهر ومن ماديته في حين انك  تجيء الآن  وهنا من تأملك الدهر الاتي كما تقول المسيحية  او من تأملك الآخرة كما يقول الإسلام.

***

نحن لسنا علمانيين بهذا المعنى ولا نحن دهريون لاننا نجيء من فوق ونعبر هذه الدنيا بما استمددناه من فوق. نحن منتسبون دينيا واذا سمينا انفسنا لا دينيين فهذه ادلوجة بمثابة الدين . ذلك ان اللادينيين يجتمعون ايضا ويؤلفون ديانة غير مسجلة ويتصرفون سياسيا كأن الله غير موجود. لا يسلك احد في دنياه بلا مرجعية قائمة فيه. وكأننا لم نعتبر ان الحرية اذا أطلقت بعد زمان لا ديني وبعد انقراض أنظمة ملحدة يعود معظم الناس الي ما كان عليه ذووهم من الايمان لكونهم احسوا بفراغ رهيب وضياع لعدم تمسكهم بشيء. الانسان يحضنه إله او يحضنه صنم يرفعه هو عو ضا عن الرب الذي غيبوه من تربية مفروضة. والانسانية المعاصرة لم تعرف الا إلحادا نضاليا قاهرا. ان العسف والعنت اللذين تحكما بالبشر في ظل الإلحاد والعنف والإرهاب الفكري.اللذين سادا المجتمعات الملحدة كانت أضخم بكثير من الظلم الذي يلحق بالأقليات من جراء جور الأنظمة الدينية. الظلم ليس من الايمان بل من الحكام الذين استعاروا اسمه لفرض انفسهم على العباد.

على ضوء هذا تبدو الجماعات الدينية بركات من السماء لأن فيها على ضعفها او سقوطها التاريخي ربطا بالقيم ورقة وسلاسة عيش وهذا الإعجاب بالجمال الروحي انى بدا. انها الفرح بالتقوى حيثما ظهرت وقوة الافتقاد للمساكين. انا لا أعرف شعرا وفنا كبيرين توهجا في المجتمعات اللادينية. هذه جافة لا تعرف مملكة القلب ولا ترى الآخر على انه آخر ولكنها ترى القوالب والخطاب الواحد الخالي من النبض. كل رهافة ذاقها البشر نزلت عليهم من الحب الإلهي. قد تستمر الرهافة جيلين او ثلاثة بلا إله، قد تتعلمن ولكن الينابيع البلورية لا تتفجر الا من قلب الله وما ينسكب منه على النفوس.

خلاصنا في النفس البشرية الوديعة، في المودات التي تنبثق عنها. خلاصنا بالرغم من ضجة التفلسف العلماني ترعاه الطوائف الروحية ان هي قامت بالجهاد الأكبر، جهاد النفس وتوادت لتنكشف فيها أخلاق الله فيأتي الفكر الملتهب به وتتلاقى روافد اللطف. الدولة، اذ ذاك، انتظام البهاء والبهاء واحتدام الأخلاق بالأخلاق وانكباب الاستقامة على الاستقامة. اما التقانة وحسن الإدارة وسياسة الرعية فتعابير او نتائج. الدولة تصنعها العبادات وان نُغرى بجمال الله ووجل الطاعة له.

***

وما نسميه تراثا في هذه الأسرة الروحية او تلك ما كان الا قراءة لله. ويتسع الصدر فيجذبك ما يقرأه الآخر وان تباينت القراآت فمكان الآخر في القلب القلب كله كما يقول الحلاج. وما عندك من لاهوت او عند الآخر من علم كلام فتمتمات للحقيقة الربانية يسعى اليها كل منا كيفما استطاع وكل يحلو له ان يرصف نفسه مع ذويه ليعبد ويرصف نفسه مع الآخرين ليحب وما التسامح بمعناه الملتزم الا الصبر على الآخر ليزداد فهما ويقوى في الود. وصبرك قبول لصبر الله على عباده فيهدي من يشاء في ساعة الرضاء. وفيما انت تحمل الآخر في اعماقك تشتهي له رقيا في دنياه وعافية وعلما ومشاركة حياة. فانك اذ انفتحت عليه فحظه في الانفتاح عظيم فلا تخضعه لنفسك ولكنه يخضع نفسه لله حسبما يفهم من مصادر الإلهام فيه والجماعة الوطنية كلها تغنى مما كان كل منها في أعماق ذاته.

تلك هي معايشة الطوائف اذا سمت. والراهن في هذه الرؤيا انك لا تسلخ احدا عن ميراثه لتقيمه في مجتمع سياسي حائد لا ميراث فيه فلا تدعوه الى مكان آخر يسمى وطنا . تحييده لا يعطيه لونا لا لون له. فالجامع هو ما كان في الآخر وفيك. فانت منتسب اليه بالله الذي فيك وفيه واذا شاء ان يتفذلك الملحد فأنت ايضا اليه بسبب من صورة الله فيه ولكنه يريد ان يأخذك الى أرض حائدة.

ان ترى هذا وان تعالج اعوجاجه او السقط الذي فيه فتلك هي الحياة الراهنة. ان ترى هذا هو ان تشهد انطلاقا من العائلة الروحية التي انت منها غنيا بالثقافة التي تعطيك ومغتنيا بالثقافة التي يمدك بها الآخر. ان تبصر هذا هو ان تقول انك تعبّر عنه في الحياة المجتمعية وفي الانتظام السياسي. تلاقي الطوائف عندنا - في هذا المنظور الحركي - لأشرف ما يكون عليه التلاقي. وتلك هي الواقعية بالذات بناء على هذا التاريخ العظيم الذي نحمله. ان ما شذ عن القاعدة لا يعول عليه. وليس نكاية بالانحراف نسعى الى ما ليس في تراثنا المشترك منذ حمورابي حتى يومنا هذا.

ان ما سكرنا به في الفكر الآتي من الثورة الفرنسية لا نستورده استيرادا بلا تمحيص. اننا بذا ننطلق من ان الذي عندنا لا يصلح لحياة الناس المشتركة كأن هناك نموذجا غربيا يفرض نفسه. ان كل نضال الشعوب دل على انها لا تعيش بلزقات تلزق بها ولكنها تعيش بالحياة التي تتفجر فيها. ان العقل الروماني الذي يستوحيه الغرب يقول بأن الأفراد نعدهم عدا وبأن جحافل السذج تساوي المفكرين في حسم مسائل الحكم. ويقول العقل الشرقي ان الناس جماعات وانها لا تهمَل ولا تلغى مواهبها ولا يضرب إسهامها الروحي ولا تباد ثقافاتها. هذا ما عرفته الحضارة اليونانية لما سكنت بلادنا مع الاسكندر. انها فهمت ان المدن مختلفة والأديان مختلفة وان الفيسفساء التي يستقبحها فكر الثورات انما كانت من أجمل فنون الأرض. لقد قامت الفيسفساء على تعدد الألوان وعلى انها تتلقى نور الشمس وتعكسه. وما خاف الشرق من التعددية ورآها متناغمة.

كل فلسفة الشرق تقوم على ان كلا منا ينتمي الى وحدة عضوية تنصهر بمقدار وتتباين بمقدار بلا إبادة وقام الشرق على ان السماء حية الآن وانه لا بد ان نشاهدها لنحيا حسنا على الأرض. فالأرض بلا توق ولا تهليل تافهة حتى السماجة. الدنيا التي تغنّي الملكوت هي الجمال المنبسط وهذا بدء السياسة.