ocaml1.gif
البوسنه والهرسك 11/21/1992 Print
Saturday, 21 November 1992 00:00
Share

البوسنه والهرسك  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 21 تشرين الثاني 1992

الكلمة البشعة التي استحدثت في يوغسلافيا هي التطهير العنصري لتسوغ المجازر. كل شيء قابل للتفسير فيما ذلك الذبح. ولكن ليست الجريمة قابلة للتبرير. القتل يبطل كل زعم تاريخي، كل استكبار تاريخي. يحزنني حزنا لا يوصف ان ناسا ولدوا في كنيستي يميتون اطفالا ونساء وشيوخا ولدوا على الاسلام. وما من انسان اختار امه ودين والده. لماذا تقصف سارايفو وغيرها ليل نهار بالمدفعية الثقيلة والطيران وهي لا تملك شيئا من هذا. استضعفوهم فقصفوهم تحقيقا لحلم صربيا الكبرى.

كل يوم يدميك مشهد الرعب الذي يستحوذ على البوسنه وما اليها. من اي شيءٍ يريدون عتقها؟ هذا شعب واحد. الصرب والكروات ومسلمو البوسنه والهرسك كلهم سلافيون ومن دم واحد. ليست هناك قوميات كما تروي بعض من وسائل الاعلام. هناك مذهبان مسيحيان والديانة الاسلامية وينطقون بلغة واحدة. ما سمي هناك قوميات ان هو الا تسمية حيية لتغطية الوحشية بعض تغطية.

ازاء حرب الابادة لا ندخل مع الصربيين في نقاش سياسي. هذا امر يهم الشعوب التي كانت متحالفة في يوغسلافيا السابقة.وقد يكون تفتيتها مؤذيا. وما عندي ريب في ان الغرب يؤثر التجزئة في يوغسلافيا كما يؤثرها في روسيا لأنه يتفرج على كل الانقسامات ولا يتحرك واذا أتى بشيء فبعقوبات اقتصادية نتيجتها الوحيدة التضييق على الفقراء. ليس الغرب مغروما بالارثوذكس الصرب او بمسلمي البوسنه ولا سيما ان ليس لديهم سلاح نووي يهددون به احدا. وما يزيدنا حزنا ان الشعوب الصغيرة لا تزال متعلقة برومنسية ما تدعوه قومية وليس بقومية ولكنه تشرذم يثبت تفوق الغرب ويجعل المستضعفين خارجين عن "لعبة الأمم" وغير مسهمين في الدورة الحضارية.

***

ان كان من وعي نرجوه للصربيين فوعيهم ان كيانهم في المستقبل وليس في الماضي. الذاكرة التاريخية المغالية في الكيانية القومية تضرهم ايما ضرر. انهم لا يستطيعون ان يظلوا سجناء الاضطهاد الذي ذاقوه من الأتراك. هذا كان شأن العثمانيين في كل مكان ولا سيما في البلقان. الكثير من اهل البوسنه في ظل ذاك الاحتلال اعتنقوا الاسلام وهذا شأنهم. كيف يعاقب قوم على "خطيئة" اجدادهم ولا سيما ان الكنيسة الارثوذكسية آمنت منذ البدء بحرية من خرج عليها وحرمت تحريما قاطعا بلسان كبير من أكابرها هو القديس يوحنا الذهبي الفم قتل المبتدعين. انها كنيسة ارادت ان تعيش في كل أرض المحبة لأهل الأرض جميعا وما مارست صليبية ومورست عليها صليبيات وهي تؤثر الحوار على كل نهج آخر في التعامل وقد كانت على هذه الواقعية التي جعلتها تلاحظ ان الناس على دين آبائهم. بل ذهب بعضنا الى القول ان الله يرعى اتباع الديانات المختلفة رعاية من عنده وفي ما هم عليه من معتقدات بل استهواها كل حق وكل جمال وكل طهر تراه في الدنيا. والكنيسة الصربية نريدها الا تتحكم فيها نزوات الحكم الصربي. وقد سبق للبطريرك الصربي بولس هذا الحكيم المحب للأقوام جميعا ان شجب سياسة الدولة وندد برئيس الدولة شخصيا في مظاهرة عشرة آلاف شخص قادها بعد خروجه من الكنيسة منذ بضعة اشهر وهو مرتد ثيابه الكهنوتية. ولم يكتف بذلك ولكنه رغب الى رئيس العلماء المسلمين في البوسنه ان يلقاه في جنيف مع كردينال زغرب ولكن ظروف الحرب حالت دون لقائهما. وبعد هذا الاجتماع غير المكتمل ندد بالمجازر الحاصلة في البوسنه والهرسك ورغب من جديد ان يجتمع رئيس العلماء اليه.

لست أعرف مدى التجاوب عند هذا الأسقف او ذاك لروحية البطريرك الشيخ وقد لا يسلم زميل له او غير زميل من الانفعالات الشعبية وقد يقع هذا الأسقف او ذاك تحت لعنة الذاكرة التاريخية الهستيرية. غير ان روح الكنيسة الأرثوذكسية في صربيا هو إنجيل المعلم الذي نادى بالمحبة المطلقة لكل انسان كائنا ما كان لونه وكائنة ما كانت عقيدته. ان يسوع الناصري الذي جاء "ليجمع ابناء الله الواحد" يتألم اليوم لأن دماء المذبوحين في البوسنه دماؤه. المسيح جريح فيهم ورافعهم الى صدره وهم يجلونه حسب كتابهم إجلالا كبيرا.

***

نحن لا نقبل عزل اهل البوسنه في ديارهم ولا نقبل حصارا يعرضهم وهم آمنون الى مدفعية الجيش الصربي او الميليشيات الصربية الرابضة على التلال. من يسمح ان يموت عشرة آلاف طفل ذبحا (هذا رقم استقيناه من مصادر إسلامية). من لا يقشعر من مجزرة ثلاثة آلاف بالغ شهدت بإبادتهم منظمات دولية. ان أربعمئة الف رجل وامرأة في سارايفو معرضون للخطر في هذا الشتاء. لا يسعنا ان نسكت عن هذا الجنون. وما أخشاه هو هذا التدفق الرهيب من اللاجئين. ان منظمة الصحة العامة تتوقع تهديدا مداهما لمئة ألف طفل.

***

هذا كله معروض على شاشات التلفزيون في العالم ولا أحد يبدي حراكا ازاء هذا الانتهاك الفظيع لحق الانسان في الحياة. لا أحد يتأثر لهذا العنف الذي يصيب امة مسالمة. نحن لا يهدئ روعنا المساعدات الانسانية التي تجمع هنا وثمة ولا تكفينا قرارات الأمم المتحدة التي لا تبدي رغبة صادقة في وقف الحرب. نريد تدخلا فعليا من القادرين ان يمنعوا ابادة المسلمين في هذه المنطقة من العالم. نريد مصالحة بين الصرب والمسلمين. قد لا تقدر الكنيسة الصربية ان تؤثر على حكم في بلادها شيوعي وهو لم يسمع صوت البطريرك القديس. اما آن للكل ان يفهموا ان عصر الاقتتال بين اهل الأديان قد ولى.

لماذا برزت من جديد هذه العقلية الصليبية السخيفة؟ نحن الارثوذكس العرب نقول لإخواننا في الكنيسة الصربية ان شهادتهم على اهل الباطل مطلوبة اليوم فإننا ذقنا هنا قهر الصليبية مع المسلمين. هذه ليست بطولة ان يفتك بشعب أعزل. ان وقف العمليات الحربية هو الشرط الأساسي لدخول هذه الشعوب التي كانت تؤلف يوغسلافيا المتحدة حوارا فيما بينها لإقامة السلام. في ظله ستحدد هي شكل التعاون فيما بينها والتعاون تفرضه الجغرافيا هناك ويفرضه التكامل الاقتصادي.

وأخشى ما أخشاه أن تمتد الحرب الى كوسوفو والمسلمون فيها 9.% من السكان وان يتخذ من كونهم ألبانيين ذريعة للإعتداء عليهم واحتجاجا بكون كوسوفو رمز المقاومة الصربية للأتراك. ونقع عند ذاك في مأساة التهجير التي عرفناها في لبنان. حزني الشديد ان أحدا لم يتعلم من خبرة الموت عندنا.

"اردد سيفك الى غمده لأن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ" هذا الكلام الانجيلي فلتعلنه الكنيسة الصربية لئلا يفنى الأبرياء. لتشهد في ظرف كهذا انها ليست مع الجنون وان مسيحها جاء للفرح ولقيامة البشر جميعا ولعزة كل انسان بما فيه المسلمون حتى لا يقع احد في المرارة والبغض.

السلام الكامل والشامل الذي في بركاته يجب ان ننعم جميعا هو الكلمة الوحيدة التي يطلب من المسيحيين قولها لئلا يتهموا بأنهم كاذبون اذا نادوا بالمحبة. هذا هو محك الإخلاص. "اليوم، اليوم وليس غدا" ينبغي ان يعانق المسيحيون والمسلمون بعضهم بعضا في أشلاء يوغسلافيا. انسان الحب هو وحده الانسان لئلا نقع في اللغو.