ocaml1.gif
هذا الجسد 11/28/1992 Print
Saturday, 28 November 1992 00:00
Share

هذا الجسد  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار28  تشرين الثاني 1992

كلما عرفت هذا الجسد يزيدني ذهولا. انه عقل مبسوط أعضاء والأعضاء احدها الى الآخر في وظائفية لا يصل الى عتباتها تركيب آلي ولا يبرمجها حاسوب. ان أشياء في الأرض كثيرة تبدو مُسخّرة لهذا الجسم مركزا لها او مصبا وكأن عالم النبات الذي نتغذى منه لا يتخذ معناه الا بمقدار ما ينصهر فينا اي بمقدار ما يتأنسن. ذلك اننا اذا ما تمثلنا ما في الكون يتخذ هذا الكون معناه. ما عدا ذلك هو أصم. العالم يصير لأن الانسان يقرأه كما ان الانسان يصير لأن الله يقرأه.

ان يتخذ الانسان ما في هذا الكون في جسده هو ان يتخذه في تسبحته لأن الانسان قبل كل شيء تهليلة. يهلل اذا وقف اي اذا أكل وشرب. الجسد شرط الصلاة والكون شرط الجسد فاذا قال الكتاب: "كل نسمة فلتسبح الرب" فهذا يصبح ممكنا اذا عقل الانسان النسمات واستدرجها اليه ليجعلها نسماته. يجب ان تصير تنفسه لتصعد اي ان تصير شيئا من جسده. بالانسان تدعى الحنطة ان تصير ليس فقط بعضا من أجسادنا ولكن جسد المسيح ويغدو عصير الكرمة شرابا الهيا. الخليقة اذا مسّها جسدنا يطالعها حتى تضحي بشرتنا كتاب الله.

أنت عندما تدرك الأسمى تفهم الأدنى. عبثا يكون ظهور القمح والحبوب كلها ان لم تكن مهيأة لاستهلاك تلك الكائنات التي ظهرت فيما بعد أعظم منها. ان لم يندرج اي شيء في شيء آخر فنحن في اللامعنى الكامل، نحن امام كيانات تتخبط وينتهي كل منها عند نفسه. ما يبين لنا في هذه الدنيا فكرا مسجلا يفصح عنه تلك الصلة التي نلمسها بين الموجودات ولكن ليس في مقولة السيطرة والابادة. ما يبدو هو استهلاك، ابادة الشيء في الشيء فكان الانسان يقتل النبات الذي يغتذي منه والحق ان الدنيا كلها تحيا اذا نما انسان واحد بما يأكل ويشرب. الحركة في جملتها حركة حياة. لست اقول الشيء نفسه عن قتلنا للحيوان ففي الكتاب المقدس لم يكن هكذا في البدء. لم يكن قتله امراالهيا. صار بعد الطوفان اي بعد الخطيئة إباحة ذلك ان اللحم ليس اصلا الى اللحم بسبب من العنف. ولذلك عندما تشير الكنائس التراثية بالصوم الى الملكوت تمسك عن اللحم ومنتوجاته. فلسفة ذلك اننا نرسم هنا في الصوم الحياة الملكوتية حيث يبطل الموت. وفي الصيام نقلّ من الطعام المباح نفسه لأن في الإكثار سيرا الى الموت ولأن في القلة دعوة الى الشكر.

الطعام ليس إبادة. انه اتخاذ قرباني للنبات المتجه بنا الى المعنى. في اللغة الدارجة يقال اننا نستعمله. في العمق الروحي هي قربانية ولهذا نؤمن ان الله يعطينا الطعام. الملحد وحده يقتحم الطعام اقتحاما. اما المؤمن فيذكر الله في البدء والنهاية. يتناول الطعام من يدي الرب "تفتح انت يدك فيمتلئ الكل سرورا". وهذا ما نقوله عند الغداء في كنيستي. وفي المساء: "يأكل البائسون ويشبعون ويسبحون الرب والذين يلتمسونه تحيا قلوبهم الي الأبد". والطعام هنا سبيل الى التسبيح به نرتفع ونرجو ونتقرب من ذاك الذي وهبنا اياه.

***

كل انسان يأكل شاكرا ذو وظيفة كهنوتية لأنه بذا يتخذ المخلوقات كلها ويرفعها الى الله وبالعملية نفسها يرتفع. وهذا هو الكهنوت تحديدا. ووصولا الى ذلك تهيأ الجسم في انسجام اعضائه. ولا ينفي هذا ان تكون وظائف الحيوانات المتطورة هي اياها وظائفنا. ذلك ان مملكة الحيوان كلّها اعدت لتجيء اجسادنا منها. هناك وحدة كونية هي بعض جمالنا والا لما كان الخلق لوحة واحدة. الأشياء كلها في تدرج واندراج حتى يأتي هذا المنحوت الرائع الذي هو الجسم البشري حتى اذا ما ظهر ينغلق الكون بالصلاة. ان نظرية النشوء والارتقاء بمن تعاقب عليها من علماء من بعد داروين جمالها في انها تسبحة ترتل كونيا منذ 14 مليار سنة او أكثر، تسبحة تقول وحدة الوجود في حضرة وحدانية الخالق. الإله الواحد الأحد من قاله قبل الأنبياء بلغة فصيحة؟ قالته خليقته في حركتها وما قطع هذا الحديث الأنبياء. هم أعربوا عما كان كامنا في صمت الابداع. انهم بلغوا ما كان الله ناحته في سرائر المادة وفي احساس الورود ووثبات الحيوان. الكون كتاب تهجئة. النبوة قراءة فصيحة.

***

ان يكون الجسد، بدءا من الكون مادة، قربانا لله فهذا يعني انه صار بالقربانية لغة. تصعد الى الله شوقا وتنزل كلمة ثم بعد ذلك تصير دعاء. تلك هي الحركة العمودية ثم حركة تخاطب أفقي او تبدو للوهلة الاولى كذلك وهي الجنس. وهنا تبت كنيستي ان الجنس خطاب او مكان خطاب وما كان من اجل الذرية. هذه تكون او لا تكون. انها نتاج الحوار المتبادل بين الرجل والمرأة. كل شيء في التلاقي اي في فك العجمة القائمة في الفرد. عندما يصبح الانسان فردا بلا فردية كما يقول ابن عربي او بفلسفتنا الحديثة عندما يصير شخصا يكون قد لقي الآخر وانطلق معه في تحرك ثالوثي لأن الله وحده يمكننا من الخطاب، الله وحده يكسر العجمة. هذا في الرؤية السطحية لذة او استهلاك ولكنه عند العارفين حب اي تجاوز الذات المنفردة الى الذات الناشئة بالعطاء. الجنس عند ناس نهم وعند ناس قربان ولذلك تفه الذين احتقروه. ظلوا على مستوى الاستهلاك كالشرهين في الطعام الذين اذا أكلوا لا يرتفعون على درجات التسبيح. ومن بلغ في الجنس الرؤية الثالوثية لا يبقى حبيس الثنائية لأن اي خطاب مرجعيته حقيقة سابقة له ومؤسسة.

الجنس من هذا القبيل ليس تمرينا. هو فردوس بسبب من الحضور الالهي. ولهذا لا يبطل الحب الكامن فيه. في الملكوت يزول التناسل المرتبط بوظيفة أرضية. اما العمق فيبقى. لما قال السيد انهم في السماء لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله ما ألغى بين المحبين الخطاب لأن الملائكة يتخاطبون.

***

هذا الجسد-اللغة يتعب ويشيخ وقد يشف اذا تقادم الزمان عليه لأنه كثيرا ما يتوب عن النزق وعن كبرياء الجمال ذلك ان الجمال لم يكن دائما لغة لأنه قلما يجتمع مع التواضع. الجمال لهو بنفسه ما لم تدخل النعمة اليه خطابا. لذلك قد تبدأ اللغة عند الشيخوخة. قد تصبح الشيخوخة عتبة الرؤى الأخيرة. قد تزول بها عوائق كثيرة وذلك التلعثم الذي تعطيك اياه الشهوة. قد تنكشف لك النورانية التي حجبتها عنك تخبطات الهوى والغرض والاستعلاء. وقد تصبح في الشيخوخة مجانية كاملة اذا أنعم الله عليك بدوام الانتباه وقلبك مبسوط. قد تتعلم الشبيبة التي تحيط بك ان تحيد عن الأخطاء التي وقعت انت فيها وتدرك في مطلع عمرها تلك التوبة التي هي ثمرة النضج. ولكنك تمشي الى الموت مستغفرا خائفا من ان يستقبح الله عراءك وخاشيا ان تكرر الأجيال الخطيئات التي انت ارتكبت.

ويكون كل جسدك في عينيك تبصران ما وهبتا ان تبصرا من الجمال الالهي ليكتمل الخطاب وكأن كل جسدك كان مدرسة فتهتف الى ربك: "لا تردني الى الأرض قبل ان تردني اليك". فاللقاء الحق اذا حصل هنا في هذا التواضع الذي لا يسوغ النطق به يقيمنا في تلك الشفافية التي تجعل الله لا يستحيي بنا كثيرا. اذ ذاك، تكون كل وظيفة الجسد انه دربنا، في ما سقط فينا وفي ما علا، على لقاء وجهه الكريم بحب.