ocaml1.gif
العدد ٢١: عمل عطشان عند بئر وجائع أمام حقل Print
Written by Administrator   
Monday, 01 January 2007 00:00
Share

raiati website copy
الأحد ٢٢ أيّار ٢٠٢٢ العدد ٢١  

أحد السامريّة

 

كلمة الراعي

عمل عطشان عند بئر
وجائع أمام حقل

عمل عطشان عند بئر وجائع أمام حقل إنّ قلب الإنسان الذي يكشف ذاته لله بصدق، في عريه وعلى حقيقته، يصير هيكلًا له، ويستحيل شاهدًا لقيامة أترابه بالإيمان بيسوع وتبنيّهم كرازة الإنجيل والشهادة لها وخدمتها، في تحوّل نشهد لواقعيّته وحقيقته في حياة المرأة السامريّة التي التقت يسوع عند بئر يعقوب. فما هي أوجه هذا التحوّل لديها؟

أوّلًا، تحوّل رغبة السامريّة من بحث عن ملء أرضيّ، بشريّ أو جسديّ أو شهوانيّ، إلى البحث عن ملء سماويّ، فلا تبقى فيه على سطحيّة حاجات الجسد، بل تبلغ فيها إلى عمق حاجة الروح، والتي تشكّل فيها عطيّة الذات لله وطهارتها الأساس والجوهر. ثانيًّا، تحوّل المناخ الروحيّ الذي تتعاطاه السامريّة بشأن صحّة العبادة من صعيد الاشتباك التاريخيّ الحاصل بين اليهود والسامريّين إلى صعيد الكيان الداخليّ الذي ينفتح على الله، ويصغي إلى كلمته، ويتركه ينفذ إلى حياته اليوميّة، بحيث تأتي عبادته قائمة على الروح والحقّ. ثالثًا، تحوّل عطش السامريّة من الماء الأرضيّ، من إطفاء ظمأ وحاجة جسديَّين، إلى العطش إلى الماء السماويّ، أي إلى الارتواء من كلمة الله التي خاطبها بها يسوع والنفاذ منها وبها إلى الشركة الحيّة مع الله، بصدق ونزاهة وتبنٍّ حقيقيّ لها. رابعًا، تحوّل علاقة السامريّة مع أترابها من نظرة دونيّة مبنيّة على سيرتها المتهتّكة، إلى نظرة اندهاش مبنيّة على عمل الله فيها،  عبر اعترافها بما انكشف ليسوع من حياتها، وما كشفه لها يسوع عن أبيه.

الفضل في هذا التحوّل يعود إلى ما بادر به يسوعُ المرأةَ السامريّة، فساق خطواتها لتعيش أوجهه عبر إقرارها بواقعها الراهن، وبحثها عن الماء الحيّ الذي يروي دائمًا، والاستفسار عن العبادة الحقيقيّة، والانطلاق إلى مصالحة أترابها عبر نقل البشارة إليهم، وأخيرًا، وقوفها شاهدة على تحوّلهم إلى الإيمان بيسوع. فكيف أقامها يسوعُ من الموت الذي كانت تعيشه؟

أوّلًا، عبر إيثاره الاتّضاع أمام هذه المرأة، وظهوره بمظهر المحتاج أمامها، بطلبه منها أن يشرب ماء من البئر. ثانيًّا، عبر إيثاره رفع كرامة هذه المرأة بأن خاطبها وإن كانت سامريّة، ورغم سيرتها التي لا تليق بها. ثالثًا، عبر إيثاره المزاوجة بين الرحمة والعدل، أي بين الوداعة والحقّ، فانكشفت حقيقة المرأة لذاتها وقادها إلى أن تنكشف هي بدورها أمامه وتنفتح عليه. رابعًا، عبر إيثاره أن يقود هذه المرأة على درب الله، أي نحو أبيه السماويّ والانفتاح على تدبيره وعبادته والإيمان به، في تصاعد مدهش من وحل الخطيئة إلى نقاوة قلب الذي يعكس حوله النعمة التي فيه.

هكذا أيقظ يسوع في السامريّة طريق الحقّ، فاستعادت جمال نفسها وصارت خلقة جديدة في مصالحة شملتها مع ذاتها ومع أترابها ومع الله. بهذا انتقلت من بئر يعقوب إلى نبع الماء الحيّ، ومن الرجل الذي ليس زوجها إلى لقاء يسوع، ومن مكان عبادة هنا أو هناك إلى معرفة الآب والسجود له، ومن ذليلة أمام أترابها إلى مبشّرتهم بالخلاص، ومن زانية وأسيرة لشهواتها إلى رسول وبشيرة بالعتق من الخطيئة، ومن تحاشيها أتاربها إلى مشيرة إلى الحصاد الوفير الكامن فيهم.

هل حانت ساعة لقائنا بيسوع عند البئر الذي يروي يوميّاتنا؟ هل نلبّي دعوته لنسقيه ماء فتنقلب الأدوار بيننا بحيث نعطيه حياتنا حتّى يعطينا حياته؟ هل انقلبنا على عتاقتنا واخترنا أن نعود إلى العالم حاملين إليه معالم هذا الانقلاب فينا بشرى حيّة وناطقة وشاهدة للقائنا بيسوع وتوبتنا إليه؟ هذا كلّه يمكن أن يحدث على غفلة من التلاميذ، بحيث يكتشفون بدورهم عمل الله الخلاصيّ في نفوس لا يتوقّعونها وبطريقة لا يختارونها، ويتعلّمون بدورهم من يسوع أن يتّضعوا دومًا، على مثاله، أمام الإنسان المجروح بالخطيئة والقابع فيها والجاهل طريق التحرّر منها. هلّا فرحنا بعمل الله فينا وبإخوتنا من أجل خلاصنا، وشهدنا له بين أترابنا؟

+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

الرسالة: أعمال الرسل ١١: ١٩-٣٠

في تلك الأيّام لـمّا تبدّد الرسل من أجل الضيق الذي حصل بسبب إستفانُس، اجتازوا إلى فينيقية وقبرس وأنطاكية وهم لا يُكلّمون أحدًا بالكلمة إلّا اليهود فقط. ولكنّ قومًا منهم كانوا قبرسيّين وقيروانيّين. فهؤلاء لـمّا دخلوا أنطاكية أخذوا يكلّمون اليونانيّين مبشّرين بالربّ يسوع. وكانت يد الربّ معهم، فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الربّ. فبلغ خبر ذلك إلى آذان الكنيسة التي بأورشليم، فأرسلوا برنابا لكي يجتاز إلى أنطاكية. فلمّا أقبل ورأى نعمة الله، فرح ووعظهم كلّهم بأن يثبتوا في الربّ بعزيمة القلب، لأنّه كان رجلًا صالحًا ممتلئًا من الروح القدس والإيمان. وانضمّ إلى الربّ جمعٌ كثير. ثمّ خرج برنابا إلى طرسوس في طلب شاول. ولـمّا وجده أتى به إلى أنطاكية. وتردّدا معًا سنة كاملة في هذه الكنيسة وعلّما جمعًا كثيرًا، ودُعي التلاميذ مسيحيّيـن في أنطاكية أوّلًا. وفي تلك الأيّام انحدر من أورشليم أنبياء إلى أنطاكية. فقام واحد منهم اسمه أغابوس فأنبأ بالروح أنْ ستكون مجاعة عظيمة على جميع المسكونة. وقد وقع ذلك في أيّام كلوديوس قيصر. فحتم التلاميذُ بحسب ما يتيسّر لكلّ واحد منهم أن يُرسلوا خدمة إلى الإخوة الساكنين في أورشليم. ففعلوا ذلك وبعثوا إلى الشيوخ على أيدي برنابا وشاول.

 

الإنجيل: يوحنّا ٤: ٥-٤٢

في ذلك الزمان أتى يسوع إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار بقرب الضيعة التي أعطاها يعقوب ليوسف ابنه. وكان هناك عين يعقوب. وكان يسوع قد تعب من المسير، فجلس على العين وكان نحو الساعة السادسة. فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماءً. فقال لها يسوع: أَعطيني لأشرب- فإنّ تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا- فقالت له المرأة السامريّة: كيف تطلب أن تشرب منّي وأنت يهوديّ وأنا امرأة سامريّة، واليهود لا يُخالطون السامريّين؟ أجاب يسوع وقال لها: لو عَرفتِ عطيّة الله ومَن الذي قال لك أعطيني لأشرب لطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حيًّا. قالت له المرأة: يا سيّد إنّه ليس معك ما تستقي به والبئرُ عميقة، فمن أين لك الماء الحيّ؟ ألعلّك أنت أعـظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر ومنها شرب هو وبنوه وماشيته؟ أجاب يسوع وقال لها: كلّ من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا، وأمّا من يشرب من الماء الذي أنا أُعطيه فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أُعطيه له يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبديّة. فقالت له المرأة: يا سيّد أَعطني هذا الماء كيلا أعطش ولا أَجيء إلى ههنا لأَستقي. فقال لها يسوع: اذهبي وادعي رَجُلَك وهلُمّي إلى ههنا. أجابت المرأة وقالت: إنّه لا رجُل لي. فقال لها يسوع: قد أحسنتِ بقولك إنّه لا رجل لي. فإنّه كان لك خمسة رجال، والذي معك الآن ليس رجُلك. هذا قلته بالصدق. قالت له المرأة: يا سيّد أرى أنّك نبيّ. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إنّ المكان الذي ينبغي أن يُسجد فيه هو في أورشليم. قال لها يسوع: يا امرأة صدّقيني، إنّها تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون فيها للآب. أنتم تسجدون لِما لا تعلمون ونحن نسجد لما نعلم، لأنّ الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن حاضرة إذ الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالروح والحقّ، لأنّ الآب إنّما يطلب الساجدين له مثل هؤلاء. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحقّ ينبغي أن يسجدوا. قالت له المرأة: قد علمتُ أنّ مسيّا الذي يُقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك فهو يُخبرنا بكلّ شيء. فقال لها يسوع: أنا المتكلّم معك هو. وعند ذلك جاء تلاميذه فتعجّبوا أنّه يتكلّم مع امرأة. ولكن لم يقلْ أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلّم معها. فتركت المرأة جرّتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس: تعالوا وانظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلتُ. ألعلّ هذا هو المسيح؟ فخرجوا من المدينة وأَقبلوا نحوه. وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين: يا معلّم كلْ. فقال لهم: إنّ لي طعامًا لآكُل لستم تعرفونه أنتم. فقال التلاميذ في ما بينهم: ألعلّ أحدًا جاءه بما يأكل؟ فقال لهم يسوع: إنّ طعامي أن أعمل مشيئة الذي أَرسلني وأُتمّم عمله. ألستم تقولون أنتم إنّه يكون أربعة أشهر ثمّ يأتي الحصاد؟ وها أنا أقول لكم: ارفعوا عيونكم وانظروا إلى المزارع إنّها قد ابيضّت للحصاد. والذي يحصد يأخذ أُجرة ويجمع ثمرًا لحياة أبديّة لكي يفرح الزارع والحاصد معًا. ففي هذا يَصدُق القول إنّ واحدًا يزرع وآخر يحصد. إنّي أرسلتُكم لتحصدوا ما لم تتعبوا أنتم فيه. فإنّ آخرين تعبوا وأنتم دخلتم على تعبهم. فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريّين من أجل كلام المرأة التي كانت تشهد أن: قال لي كلّ ما فعلتُ. ولـمّا أتى إليه السامريّون سألوه أن يُقيم عندهم، فمكث هناك يومين. فآمن جمع أكثر من أولئك جدًّا مـن أجل كلامه. وكانوا يقولون للمرأة: لسنا من أجل كلامكِ نؤمن الآن، لأنّا نحن قد سمعنا ونعلم أنّ هذا هو بالحقيقة المسيح مخلّصُ العالم.

 

الانحرافات الأخلاقيّة في ضوء القيامة

لا تلتقي الانحرافات الأخلاقيّة مع نور القيامة، بل هما نقيضان، ولكنّ الانحراف، مع كونه سقوطًا، إلّا أنّ القيامة تُنقذه من عفونته، وتجدّد قيامه وسعيه وتوبته.

إنّ مواجهة هذه الانحرافات بالتزام أخلاقيّات الحياة هي نمط لا يُتقن إيقاع استثماره إلّا مَن ذاق حلاوة الحياة، كما تذوّقها لعازر بكلمة تعزية من السيّد الطريق والحقّ والحياة. كلّ اقتباس لنورانيّة ربّانيّة إنّما هو ترجمة للمبدأ الرئيس في مسيرة النور، بالتطهّر من الانحرافات التي تعاكس مشيئة الله في مَسرى الحياة الإنسانيّة الهانئة الساكنة.

يأتي النصّ في إنجيل يوحنّا مائيًّا، ولو تحدّث عن المرأة السامريّة التي كانت حياتها كتابًا مفتوحًا، فرآه يسوع بحكمة، فقادها إلى الإيمان به.

بعد تعب «جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ». لم يسألها عن اسمها، ولا عن جنسيّتها، ولا عن مكانتها، سألها عمّا جاءت هي من أجله لتملأ جرّتها. طلب منها ممّا هو عندها ليسألها عن مائه الذي متى أنا أُعْطِيهِ لأحد «فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ «بَلِ (…) يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». بهذه المائيّة، بعد عطش جفاف، اكتشفَت السامريّةُ أنّ الماء الحيّ هو يَسُوع «المتكلّم معكِ»، ومَن شرب من هذا الماء يُدعى «لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا أنتم فِيهِ. فإنَّ آخَرينَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ»، فالدنيا حقلٌ، «ليَصْدُقَ الْقَوْلُ إِنَّ وَاحِدًا يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ».

من هنا فالمؤمن إمّا أن يكون زارعًا أو حاصدًا، وفي الحالتين هو مدعوّ إلى عدم الأذى، فمَن يخدم الأرض يخدم المقيم عليها، وتاليًا كما يرفع الأذى عن التراب، كذلك عليه أن يرفع أذاه عن أخيه، وكما يضمّد أوضاع الشجر والنبات والثمار، كذلك عليه أن يضمّد جراح من يضعه الربّ في طريقه، أو مَن يقصده بتوجيه السيّد.

إنّ الشهادة ليسوع، الماء الحيّ، تقوم وسط العطشانين الذين يشتهون قطرة محيية ليطفئوا ما تناولوه من نبات يحرق الأحشاء في دنياهم، كما يحدث مع الأيّل في شوقه إلى ينابيع المياه.

لا يطفئ شهوة الأذى والسعي إلى السلطة واغتنام الفرص إلّا تلك المعموديّة التي بالماء النازل من فوق، يعيد إلى الإنسان أصالته التي يريدها الله واسطة خير واحتضان، لا عقدة شرّ واضطهاد وإلغاء.

كلّ أذى هو إله مصنوع بأيدينا ولكن من طين، لذا إن التقى بنقطة ماء إلهيّة تلاشى، تبدّد، توحّل بملذات الدنيا، ليبرز الإله الحيّ الحقيقيّ الذي تعرفونه وبه نتحرّر. من هنا علينا التفكّر دائما بنتائج الإحسان وتداعياته، فالإحسان لا يكون من دون التفكير بمضاعفات وعواقب الأقوال والأفعال. كثيرًا ما نقوم بالإحسان بوسائل توقع الأذى، وتبلبل مفهوم العطاء (ببعده الشامل وأنواعه الجمّة)، وتُسهِم في تشويه البذل المجّانيّ الذي دعانا إليه السيّد في طهارة السعي، ونبل الهدف، وأن ننقص نحن لينمو الآخر في حضرة الله وليس في حضرتنا.

من هنا حين التقى يسوعُ السامريةَ يطلب ماء، انتهى اللقاء بأن طلبت هي الماء الحيّ الذي يبدّد الظمأ، يرفع الروح ويبدّد الخوف ويقود إلى منابع الحياة.

 

قبل الانتخابات وبعدها

للمطران جورج خضر

لن أتكلّم على الحياة السياسيّة إلّا من حيث هي مظهر للمرض لا المرض ذاته. ولست أريد أن أحمّل أهل الحكم بمن فيهم البرلمانيّون كلّ خطايا العالم. هي هزالة إنساننا. ولا يسمو الفرد إذا تولّى منصبًا ولكن تبدو ضعفاته وتستفحل إذ تجد وسائلها. ولا يعلو أحدنا إذا نال شهادة جامعيّة فإنّها تكلّل ما في رأسه وتبقيه الجامعة على فراغه إن كان فارغًا. بتّ مقتنعًا بأنّ الشهادة والعمل في الدولة والمؤسّسات في أيّة دولة لا يرفع أحدًا عن مستواه المتدنّي. رأيت المحامي والسياسيّ والمهندس معادلًا لبائع الخيار في التفه. الفرق أنّ البائع ليس عنده كلام يغطّي به تفهه ولا مال له يلتمع به ويتشدّق به وينثره على الزبانيّة ليشدّد عبوديّة لهم كانوا يودّون لو يخرجوا منها بكرامة العمل.

لا تحلّ مسألتنا في نطاق السياسة وحدها، في مجال المؤسّسات ودولة القانون. من البدهيّ أنّ الحياة السياسيّة لا تقوم على روح القبيلة، ولكن على روح ما هو عامّ ومشترك وعادل، أي على الشرائع المخلّصة لجميع الناس. ذلك بأنّ القانون أو المؤسّسة مقولتان تفيدان أنّ العلاقات بين الحكم والمواطنين لا محاباة فيها للوجوه، ولا مكانة فيها للمحسوبيّة ولا تراعي المستقوين بالزعماء ولكنّها تراعي المستضعفين. وحتّى يتمّ ذلك كلّه ليس من مؤسّسة ممكنة الفعل إذا سادها أمراء المال. بكلام آخر ما من قانون قابل للتنفيذ إلّا بإزالة سلطان المال، ولهذا تصدر الدول تشريعات ضدّ الاحتكارات واستغلالها للفقراء. 

(...) قلت ليس المجلس كلّ شيء. فالأهمّ منه ما سمّي النخب أو الطلائع المثقّفة سياسيًّا والتي في فكرها عمارة سياسيّة مختلفة عن سياسة الحرس القديم وذات المضمون العقليّ المقنع. ولعلّ واحدة من مشكلاتنا أنّك تجد مثقّفًا سياسيًّا ولكنّه بلا التزام أو تجد منخرطًا في العمل السياسيّ ولكن بلا فكر. أي يبدو أنّ الحلقة مفقودة في غالب الأحيان بين الثقافة والعمل. عند الاختصاصيّين وغير الاختصاصيّين تجد أحيانًا تأمّلًا سياسيًّا عظيمًا يلازمه بعد عن العمل الوطنيّ اليوميّ. تجد السياسة الغارقة في الصغائر والمتذاكية على الطريقة اللبنانيّة ولكنّها خالية من العقل السياسيّ. عند بعضهم احتقار للمعرفة السياسيّة المرتبطة بالمثل العليا.

هذا التلاقي الخلّاق بين المعرفة والعمل نرجو أن يبدو عند بعض من المرجوّين نوّابًا. غير أنّ المبتغى الأوّل أن يظهر في الوعي والانخراط الوطنيّين بحيث تنشئ هذه الوحدة بين العمل والنظر مجموعات ضاغطة تحمي الضعفاء من جهة، وتغذّي الأمل وتبلّغ المسؤولين كلمتها. لكنّ هذا لا يعني أن ندع المجلس على عجره وبجره بل أن نسائل من انتخبناهم ونلحّ في السؤال. ليست المؤسّسات والقانون فحسب، ولكنّ البشر المناضلين في سبيل أهداف واضحة من شأنها دعم المؤسّسات واستشراف قوانين متطوّرة وقائمة. (...)