ocaml1.gif
المتروبوليت سلوان في خدمة تنصيبه مطرانًا على الأبرشية Print
Written by Administrator   
Friday, 13 July 2018 00:00
Share

ceremony speechكلمة صاحب السيادة المتروبوليت سلوان،

راعي أبرشيّة جبيل والبترون وما يليها

في خدمة تنصيبه مطرانًا على الأبرشية

كنيسة القديس جاورجيوس - بصاليم، الجمعة في ١٣ تموز ٢٠١٨

 




 

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد،آمين.

 

أبانا وبطريركنا يوحنا العاشر الجزيل الطوبى والكلي الاحترام، 

فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية ممثَّلاً بدولة نائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور غسان حاصباني،

معالي رئيس المجلس النيابي ممثَّلاً بسعادة النائب الدكتور ميشال موسى

معالي رئيس مجلس الوزراء ممثَّلاً بسعادة النائب نزيه نجم،

إخوتي مطارنة المجمع الأنطاكي المقدّس والأساقفة المعاونين، 

الإكليروس الموقّر ورؤساء أديار الأبرشيّة، 

الأحبّاء ممثّلي بطاركة الكنائس الشقيقة وأصحاب السماحة والفضلية من سائر الطوائف الإسلاميّة

أبناء أبرشية جبيل والبترون وما يليهما الأحبّاء بالربّ،

أبانا ورئيس كهنتنا، المطران جورج، راعينا الحبيب،

 

"ولما صلّوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه،

وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة"

(أعمال ٤، ٣١)

أحبّتي، آبائي وإخوتي،

بهذه الآية أسعى أن أبلغ معكم إلى عمق ما يجمعنا في هذه الصلاة المباركة، القصيرة والبليغة بآن.

أوّلاً، هو عهد نجدّده معًا كرعيّة للمسيح يسوع. وللعهد مُحاوران: الله والانسان، الله ونحن. الله بكلمته يبلغ إلينا، ونحن بوفائنا نبلغ إليه. إنّه عهد أنْ نحبّ الله وأنْ نحبّ الانسان من كلّ الكيان؛ عهد الاجتماع جميعًا حول الكلمة والمعيّة في عيشها ومشاركتها؛ عهد الخدمة في الحقّ والتواضع. إنّه عهد الدخول والخروج من الباب إلى المراعي الخصبة، بالمسيح وعبره وحده، فهو قائل: "أنا هو الباب" (يو ١٠، ٩).

ثانيًا، هي إقامة في انتظار دائم، انتظارِ العطيّة، عطيّةِ الروح الذي يقودنا إلى كلّ الحقّ. أنظر أمامي صورة الرعيّة المجتمعة التي تستدرّ بصلاتها نعمة الروح لتبلغ إلى معرفة مشيئة الله وفهمها وتسعى أن تحقّقها في حياتها.

وثالثًا، هو انطلاق من الذات إلى اللقاء، لقاءِ الله ولقاء من خُلق على صورته، لقاءٍ يبغي تسبيح الخالق والسجود له. هو انطلاق إلى الجمال الدفين الذي وشّح به الخالقُ الانسانَ، جمالٍ نحن مدعوّون أن نُزيل ستارة الأنانيّة عنه بتطهير العقل والقلب. هو انطلاق يتحقّق بسكب النفس في سبيل محبة الأخ وخدمة القريب.

 

إذا كانت هذه الصلاة والخدمة التي تشارَكْنا بها تعنينا كلّنا بأشكال مختلفة، فكيف يمكن أن نترجم ما سبق قوله عمليًّا؟ أشارك محبّتكم ببعض هذه المعاني التي يمكننا أن نعمل عليها معًا:

المعنى الأوّل هو أنّ أبرشيّتنا صورة مصغّرة عن كنيستنا الأنطاكية، ففيها كرسيّان رسوليّان: مرقص الإنجيليّ، معاون بطرس الرسول، أسّس كرسيّ جبيل، وسيلا أو سلوان، معاون بولس الرسول، أسّس كرسيّ البترون. هذه البركة مدعاة لمسؤوليّة رسوليّة نجسّد عبرها روح كنيسة الأنطاكيّة في محيطها الأصغر وفي محيطها الأرحب، وذلك في الخدمة والمحبّة والانفتاح والبشارة والعيش المشترك والحوار، عبر الالتزام بشؤون الانسان وقضاياه، وبشؤون الوطن وأبنائه، بتضامن في العمل على تقديم كرامة الانسان على أي اعتبار آخر وصونها وتحقيق مبتغاها الأخير، فهو يستمدّ كرامته ممن خُلق على صورته.

المعنى الثاني هو أنّ رسوليّةَ هذه الأبرشيّة معطوفة على واقع تاريخيّ فهي حديثةُ الكينونة كأبرشية مستقلّة، وهذا يجعلها رفيقة درب لعدد من أبرشيّات الكرسيّ الأنطاكيّ التي نشأت بسبب الهجرة في العصور الحديثة في غير مكان من هذه المعمورة. فلها أن تتباهى بمنشئها كلّما انحنت مع غيرها في خدمة ورعاية مَن بعث بهم الزمن للعيش فيها، زمن حرب ولّى عندنا، ونرجو أن يولّي قريبًا إلى غير رجعة عند كلّ إخوتنا في هذا الشرق.

المعنى الثالث هو أنّها تتميّز بتاريخها الحضاريّ والكنسيّ. فقد خرج من مرفئها قديمًا بحّارة حملوا مشعل الأبجديّة وكانوا روّاد التعامل والتواصل البنّاء والمنتج مع أترابهم في الإنسانية أينما حلّوا. وقد انطلق من هذا المرفأ عينه كارز رسوليّ إلى القارّة الأفريقيّة حمل معه مشعل الإيمان وأضاء به أبناءها. هذا يحمّلنا مسؤوليّة أن نكون خير مثال في كلام والتعامل والخدمة والبناء الإنساني والروحيّ والحضاريّ مع إخوتنا في هذا البلد، كما وفي أي مكان تشدّ الرياح بسفينة حياتنا إليه.

المعنى الرابع هو أنّها تتميّز بجغرافيّتها وموقعها في لبنان وتاليًا في هذا الشرق. فالبعض يحلو له أن يسمّيها أبرشية جبل لبنان، وللجبال في حياتنا أكثر من معنى. فجبل لبنان له موقع القلب في جغرافيّة لبنان وتاريخه. وهو يحتلّ عبر التاريخ مكان الملجأ الأمين في أوقات الشدّة، القديمة والحديثة، لأبناء هذا الشرق. ولمَن تحوّلت الهموم جبالاً في حياته، فما له سوى أن يرفع الألحاظ إلى هذا الجبل ويتذكّره قول المرنّم: "رفعتُ عيناي إلى الجبال من حيث يأتي عوني؛ معونتي من عند الربّ الذي صنع السماء والأرض" (مز ١٢٠، ١-٢). عسى وجود هذا الجبل يساعدنا على رفع جبال الهمّ عن قلوبنا فنحوّلها إلى مكان مقدّس، مكان لقاء بالربّ عبر الصلاة لاستدرار التعزية والنعمة والعضد الإلهيّ.

المعنى الخامس كامن في خاصيّة أبناء الأبرشيّة، المقيمين هنا (فيها) أو هناك (وراء البحار) ويأتون إلينا بين الحين والآخر. فهم ينهضون بكنيستهم وببلدانهم بتنوّع ثقافاتهم واختصاصاتهم، من جهة، وبقوّة إيمانهم ورجائهم، من جهة أخرى. وهذا مدعاة للفرح بأن تنمو في نفوسهم حياة التقديس، كما وروح التعاون والمعيّة والمشاركة في تحقيق كرازة الكنيسة وخدمتها، هنا وهناك على السواء.

المعنى السادس كامن في طاقة التكريس لله وخدمته، إذ حبا الله هذه الأبرشيّة بإمام وأب وراعٍ عمل على تطوير الدعوات في نفوس أبنائها على كافة الأصعدة الكنسيّة، حيث برز التكريس بأوجه الكهنوت الملوكيّ والكهنوت الخاصّ والتكريس الرهباني. فتحوّلت الأبرشيّة إلى ورشة حيّة دائمة في الداخل وعلى أسوارها، أي في الرعايا وفي أديارها التي تسوّرها من جهاتها الجغرافيّة الأربع وتغنيها بروح الطهارة والصلاة النقيّة. جميع هؤلاء يكوّنون ذخيرة الروح المتّقد والملتهب حبًّا للخدمة والحقّ، كما وامتنانًا لراعيها وخادمها الأمين.

المعنى السابع هو الوفاء لدعوتها، تلك التي سطرنا أوجهها في المعاني الآنفة الذكر. إذا انعدم الوفاء فكيف يمكننا أن نعلن سرّ الكنيسة أنّها كنيسة واحدة، جامعة، مقدّسة، رسوليّة؟ ليس الوفاء ما يفترضه المرء، بل له معيار هو الإنجيل والكرازة الرسوليّة والفكر الآبائي الحيّ في خلايا الخبرة الكنسيّة الطويلة. هو الوفاء للعهد بين الراعي والرعيّة، وللالتزام بالكلمة، وللانصياع للروح. هو خروج من الذات وتسليمها لله. فما الرعاية على مستوى الكنيسة الكبرى أو على مستوى الكنيسة المنزليّة سوى امتهان مستمرّ للتواضع، وانحاء طوعيّ نحو واقع الآخر، ومحاولة رفعه على منكبيّ الخدمة والتربية، وسعيّ لعيش الوحدة التي يقدّم فيها ذاتَه الراعي، كلُّ راعٍ، سواء في بيته أو رعيته أو ديره أو كنيسته، وذلك في سبيل صون المحبّة في الجماعة ووحدتها في الإيمان. 

 

ولمّا نحن نحتفل معًا الآن بصلاة الشكر، وهو الإطار الكنسيّ لخدمة التنصيب، فلا بدّ لي أوّلاً أن أشكر الله معكم على انكشاف هذه المعاني أمامنا، وعلى إمكانيّة التعبير عنها والمشاركة والتعاضد في تحقيقها. لقد تعلّمنا من خلالها أن خدمة التنصيب لا تعني الراعي الجديد بمعزل عن رعيّته أو كنيسته أو محيطه الأقرب والأبعد. بل هي خدمة تضعني كما تضعكم في موقع مميّز: إنّنا معًا، بمن تكونون، وبمن وبما تمثّلون، متضامنون دون خجل، سواء على المستوى الأبرشيّ والكنسيّ الأنطاكيّ، أو على مستوى العمل والحوار المسيحيّ والإسلاميّ، أو على المستوى الوطني والرسمي، كما على مستوى الإنسان في أي مكان. 

لقد حباني الله في هذا المجال بنعمة فريدة كرئيس كهنة وهي أن أعيش خبرة هذه الخدمة مرّتَين: مرّة في الأرجنتين، والآن في لبنان؛ مرّة في الخارج ومرّة في الداخل (بالنسبة لكم). يبدو لي أنّه عليّ أن أتعلّم من جديد سبيل إخلاء الذات في خدمة الله وخدمة صورته، الإنسان. أرجو أن أكون هذه المرّة خير تلميذ بين أفضل أساتذة، وألا يذهب تعبكم ونعمة المسيح باطلاً (١كورنثوس ١٥، ١٠). لقد خدمتُ في الأرجنتين لأفي الدَّين الذي عليّ لكم، فقد تربّيتُ بينكم وعلى أيديكم، والآن أنا بينكم لأفي دَيني على كنيسة الأرجنتين، التي أحبّ أن أدعوها "حديقة الكرسيّ الأنطاكيّ"، وذلك لأنها كوّنتني كرئيس كهنة خادم للكنيسة. لذا أفي دَيني عليهم بخدمتي إيّاكم، واضعًا أمام عينيّ قول الربّ العظيم: لا تحتقروا إخوتي، "لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار" (متى ١٨، ١٠).

أشكر الله معكم أن سبب وجودي بينكم إنّما هو عناية أبينا وراعينا البطريرك يوحنا العاشر في تدبير أمور كنيستنا المقدّسة. فلولا اقتراحه أوّلاً، ومحبّة وثقة آباء المجمع ثانيًا، لما كانت عناية الله قد نقلتني إلى هنا. هاتان اليدان موجدوة لخدمتكم عن قريب كما كانت من بعيد، فهي في تصرّف خدمة الوحدة والتعاون والمحبّة الأخويّة.

كما أشكره معكم لأنّ سبب وجودي بينكم إنّما هو أيضًا عناية راعي هذه الأبرشيّة بكم وبكنيستنا، وكم أتبارك الآن بمعيّته في رعايتكم. أرجو أن أفي معكم عنايته بنا وصلاته من أجلنا.

أشكر أبناء هذه الأبرشيّة وأبناء كنيستنا عامّة بالفرح الذي عبّروا عنه بقرار المجمع، فأرجوه فرحًا قائمًا بأن ننظر وجوه بعضنا البعض نظرة الله لنا، فيكون الواحد للآخر أخًا كريمًا ومحبوبًا ومكرّمًا فوق الاعتبار على حسب وصية الرسول في رسالته إلى أهل كورنثس. وأرجوه فرحًا يغذّي انطلاقنا الدائم في ممارستنا الكنسيّة، انطلاقًا من "الوجود" مبتغين "حسن الوجود" أو "أفضل الوجود". وأرجوه أيضًا فرح المقيمين في السلام والمحبّة والوحدة (٢كورنثوس ١٣، ١١)، فرحًا ثابتًا في جسد الكنيسة، وفي جسد هذا الوطن الحبيب، وفي جسد هذا الشرق المتألّم، كما وفي جسد الإنسانيّة المجرّح بتألّب أشكال الأنانيّة عليه.

أشكر الله على كلّ من يخدم بتفانٍ وإخلاص، في الحقل الكنسيّ والروحيّ والشأن العام، فهم إخوتي في الإيمان والمواطنة والخدمة والمصير والعيش المشترك. أمّد يدي إليكم وأضمّ قلبي إلى قلبكم، متعاونًا وإيّاكم في ورشة تضافر الجهود في سبيل خير هذا البلد وخير أبنائه.

أشكر الله على إخوة لنا تعزّيتُ بإيمانهم، مَن جنت عليهم صروف الدهر بشتّى أنواع العذاب والآلام، والذين حباني الله أن أرافقهم كرئيس كهنة خارج هذا الوطن، إذ تعلّمتُ معهم وعبرهم الكثير، أقصد بهم الذين هاجروا إلى الأرجنتين سواء من أهلنا في سوريا أو من أهلنا في فنزويلا وهم من أصل لبنانيّ وسوريّ. وأخصّ بالذكر، في هذا المجال، رعيّتي الأولى في أبرشيّة حلب وراعيها المطران بولس، خصوصًا بعد أن أقامه اللهُ في "تلك المهمّة الكنسيّة غير المنظورة"، منذ يوم ٢٢ نيسان ٢٠١٣، وذلك مع رفيق المصير المطران يوحنا ابراهيم. لقد تعزّيتُ بجهاد هؤلاء الذين خرجوا إلى بريّة الغربة القاسية، غربة خبرتُها مرّات عديدة في حياتي، وأفرح بقوّة صلواتِهم ورجائِهم واتكالِهم المطلق والكلّي على الله. لقد صاروا جميعًا لؤلؤة ترصّع إكليل والديهم ورعاتهم وكنيستهم وتعزية لأترابهم. وكم أرجو أن نكون دومًا عزاء، الواحد للآخر، أينما كان ومهما كان.

أخيرًا، أشكر الله على هذه التعزية الحاصلة لنا بنعمة الله وبركة صلوات آباء كنيستنا وكهنتها ورهبانها ومؤمنيها، الحاضرين والغائبين، الذين في السماء والذين على الأرض. فهم كثر، ولا يسعنا أن نفيهم حقّهم سوى بالخدمة المتفانية والصبورة والمحبّة. 

أشكركم جميعًا.

Last Updated on Friday, 13 July 2018 23:56