ocaml1.gif
العدد ١٥: لا تكن غير مؤمن Print
Sunday, 15 April 2018 00:00
Share

تصدرها أبرشيّة جبيل والبترون للروم الأرثوذكس

الأحد ١٥ نيسان ٢٠١٨ العدد ١٥ 

الأحد الأوّل بعد الفصح

أحد توما

logo raiat web

كلمة الراعي

لا تكن غير مؤمن

مفارقة كبيرة تبرز من قولين متقابلين أوّلهما قول بولس «عالمين أنّ المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضًا» (رومية ٦: ٩)، وثانيهما قول يسوع لتوما في إنجيل اليوم: «هات إصبعـك الى ههنـا وعـاين يديّ، وهات يدك وضَعْها في جنبي» (يوحنّا ٢٠: ٢٧)، ثمّ يردف الربّ: «ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا». أجل لا يموت المسيح من بعد قيامته لكنّه يحمل في جسده المجيد آثار الموت إلى الأبد ليقول للناس إنّ جسده، بكلّ ما احتمله من بؤس، هو الذي صعد إلى العلى. هذا الذي نزل إلى أسافل الأرض هو الذي كان قادرًا على أن يصعد فوق السماوات كلّها ليملأ كلّ شيء» (أفسس ١٠: ٤).

الجالس في ديمومة المجد يحمل جروح الخطيئة وقد رضي الربّ أن يسحقه بالعاهات (إشعياء ٥٣: ١٠). فإذا رأيناه ظافرًا حتّى نهاية العالم نعرف أنّه اليوم أيضًا يأخذ عاهاتنا ويحمل أوجاعنا في أعجوبة الوحدة القائمة بين الألم والظفر، بين الترابيّة والضياء. كأنّ كلام السيّد لتوما أنّ معجزة الإيمان ليست أن تقرّ بأنّ المسيح كان إلهًا من جهة وإنسانًا من جهة بل أن تقرّ الاثنين معًا. وقد تكون المعجزة ليست هذه بل أّنّه أبدًا إله في الناسوت وإنسان في اللاهوت أي أنّه الإله الذي لا يدرك عمق ألوهيّته إلاّ لكونها انتسبت- وهي غير منسوبة- إلى هذه الإنسانيّة المتكسّرة الصائرة أبدًا دمًا، وأنّه أيضًا الإنسان الجريح الذي يعرف أنّه مشدود إلى إلهيّة حلّت فيه حتّى السكنى والاحتجاب، إلهيّة غير مجرّدة كما تقول صلواتنا. ولعلّ التجربة الكبرى من جهة أن تكون إنسانًا غير منسوب إلى الألوهة الهابطة عليك والناهدة منك، ومن جهة أن تكون سجين ألوهيّة لا تنزل ولا تنتسب ولا تحبّ ولا تتأثّر، وتاليًا لا يعرفها أحد فلا تخلص.

أي إيمان كان إيمان توما؟ العبادات تجلّ الرسول لأنّه كان شاهدًا للقيامة: «يا لمستطرف عدم تصديق توما الجميل إذ أقبل بقلوب المؤمنين إلى المعرفة». هاجس طقوسنا أن يعلم الكلّ بآلام السيّد وقيامته وأن يشاركوا توما في الهتاف: «ربّي وإلهي». هذا صحيح لكنّه ليس وصفًا لمضمون إيماننا بالتجسّد. فالمضمون يبقى أنّ المسيح الإنسان لم يكن شبحًا وأنّ المسيح الإله ما كان مجرّدًا. الإيمان فرادته في هذا اللقاء في أقنوم حيّ. الإيمان المسيحيّ وجوديّة هذا اللقاء وليس فقط في الطبيعتين ولكن في الحرّيّة، في حرّيّة انسجامهما. المسيح ليس ذلك الكائن النيتشويّ المتفوّق الباهر الكلّ في غطرسات البطولة لكنّه- وهذي عظمته في الناسوت- كان يعمل دائمًا ما يرضي الآب. كلّ انفتاح المسيحيّة في حقيقة هذه الطاعة الحرّة التي كان المسيح يعرفها لحظة لحظة. من جمالات المسيحيّة أنّها تنفي عن الله الاغتصاب من حيث أنّ يسوع عاش حرّيّة كاملة وضمن هذه الحرّيّة نقاوة كاملة. من عظائم المسيحيّة أنّها تنفي الجبريّة نفيًا كلّيًّا وتاليًا تضع الأساس الحقّ للإبداع الإنسانيّ.

إنسانيّتك مرفوعة كما هي ليس فقط في شقاء جسدك بل في جروح قلبك. أنت، متعبًا، مأخوذ إلى فوق. المسيحيّة لا تبدأ بالهدوء. تصل إلى الهدوء وعنده تعرف أن ترى تمزيق البشريّة في لحمها ومشاعرها، وتعرف أنّك أمام هذا التمزيق تبكي وتدعو وتعطي من لحمك ومن دمك الحيّ لا يبقى الإنسان الآخر عظامًا مجرّدة.

وفي آخر المطاف إيمانك قد يستدعي أن تبقى وحدك في هذه الرؤية حين يسلخ الناس بعضهم لحوم بعض. فإذا استرسلوا في الخوف فأنت مؤمن بأنّ يسوع ساكن هذه القلوب الخاشية وأنّه وحده يقبل عنها الخوف. الخوف يعلّمها الانعزال ويعلّمها الكيد ويعلّمها البغض، وأن تنهش لحمك لتثبت لنفسها أنّ لها أظفارًا. ولحمك أنت معطى ودمك أنت مسكوب لكنّك طفل ولا تعرف أن توفّق بين الطفولة من جهة والخوف والانعزال والكيد والبغض من جهة أخرى. وفي لغتك أنت أن تكون إلهيًّا غير مجرّد يعني أن ترى كلّ ذلك وتحبّ، لأنّك إذا لم ترَ فأنت مع أشباح وتاليًا تحبّ هواجسك فقط. كذلك أنت «إنسان غير ساذج» كما قالت صلواتنا، لأنّك لو كنت ساذجًا لما تألّمت ولقد أنعم الله عليك بالألم لينعم عليك برؤية المسيح إلهًا متأنّسًا حاملاً شقاءنا على صليبه وحاملاً صليبه في وسط المجد.

إنّه تدبير إلهيّ قالت صلاة المساء إنّك لم تلقَ توما معهم سيّدي أحد القيامة، لكي تمكّنه من أن يعاين الجنب حيث خرج الدم والماء للصبغة لأنّه قال: «أشاهد الجرح الذي به شفي الإنسان من الجرح العظيم». سيّدي أشاهد جرحك في كلّ جسد طريح، في كلّ روح مكلومة. أؤمن بلاهوتيّة المرضى، بلاهوتيّة الخطأة، بالعشّارين والزواني الذين استغفروا، بكلّ أولئك الآتين من المشارق والمغارب ليجلسوا في أحضان إبراهيم، في حين يطرح أبناء الملكوت خارجًا. أؤمن لأنّي أعرفك عبرهم كما استطعت قبولهم من شفافيّة وجهك، فإذا فتّشت جنوبهم المطعونة انطق بلاهوتك أنت، وإذا مارست «نفوسهم العسرة» أعرف وداعة روحك ولا استعلي، فإنّ جنبي وجنوبهم نالت الطعنة ذاتها ولأنّ نفسي ونفوسهم في العسر عينه. أنا أعلّمهم لا من رؤية نفسي ولكن من رؤية وجهك، هذا الذي رآه الكافرون مصفوعًا ولم يتحرّكوا.

وإذا نحن هكذا دخلنا إلى الناس لا تبقى الأبواب مغلقة خوفًا. أنت تدخل من ورائنا. ولك، إذ ذاك، أن تسامرهم ولنا نحن أن نختفي. وفي نجواك تتكشّف لهم أسرار الوجود.

المطران جاورجيوس

 

الرسالة: أعمال الرسل ٥: ١٢-٢٠

في تلك الأيّام جرت على أيدي الرسل آيات وعجائب كثيرة في الشعب، وكانوا كلّهم بنفس واحدة في رواق سليمان، ولم يكـن أحد من الآخرين يجترئ على أن يُخالطهم. لكن كان الشعب يُعظّمهم، وكانت جماعات من رجالٍ ونساءٍ ينضمّون بكثرةٍ مؤمنين بالربّ حتّى إنّ الناس كانوا يَخرجون بالمرضى إلى الشوارع ويضعونهم على فرش وأَسرّة ليقعَ ولو ظلّ بطرس عند اجتيازه على بعض منهم. وكان يجتمع أيضًا إلى أورشليم جمهور المدن التي حولها يحملون مرضى ومعذَّبين من أرواح نجسة، فكانوا يُشفَون جميعهم. فقام رئيس الكهنة وكلّ الذين معه وهم من شيعة الصدّوقيّين وامتلأوا غيرة. فألقوا أيديهم على الرسل وجعلوهم في الحبس العامّ. ففتح ملاكُ الربّ أبواب السجن ليلاً وأخرجهم وقال: امضوا وقفوا في الهيكل، وكلّموا الشعب بجميع كلمات هذه الحياة.

 

الإنجيل: يوحنّا ٢٠: ١٩-٣١

لمّا كانت عشيّة ذلك اليوم وهو أوّل الأسبوع والأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين خوفًا من اليهود، جاء يسوع ووقف في الوسط وقال لهم: السلام لكم. فلمّا قال هذا أراهم يديه وجنبه ففرح التلاميذ حين أبصروا الربّ. وقال لهم ثانية: السلام لكم، كما أَرسلَني الآب كذلك أنا أُرسلكم. ولمّا قال هذا نفخ فيهم وقال: خذوا الروح القدس. مَن غفرتم خطاياهم تُغفر لهم ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسكت. أمّا توما أحد الاثني عشر الذي يقال له التوأم فلم يكن معهم حين جاء يسوع، فقـال له التلاميذ الآخرون: إنّنا قد رأينا الربّ. فقال لهم: إن لم أُعاين أثر المسامير في يديه وأَضع إصبعي في أثر المسامير وأَضع يدي فـي جنبه لا أؤمن. وبعد ثمانية أيّام كـان تلاميذه أيضًا داخلاً وتوما معهم، فأتى يسوع والأبواب مغلقة ووقف في الوسط وقال: السلام لكم. ثمّ قال لتوما: هات إصبعك إلى ههنا وعاين يديّ، وهات يدك وضَعْها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا. أجاب توما وقال له: ربّي وإلهي. قال له يسوع: لأنّك رأيتني آمنت؟ طوبى للذين لم يرَوا وآمنوا. وآيات أُخَر كثيرة صَنَع يسوع لم تُكتب في هذا الكتاب. وأمّا هذه فقد كُتبت لتؤمنوا بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم اذا آمنتم حياةٌ باسمه.

 

جورج مسّوح

كنّا نتمشّى على طرقاتٍ يحكمُها برُّ الكلمة، عندما التقينا. سريعًا، جمعَتْنا قرابةٌ امتدّت إلى كلّ مَن يخصُّنا، كنسيًّا وعائليًّا. هذا اكتشافٌ لا يعرفه العالم أنّ الناس إخوة، أولاد آب واحد. لم يكن له ما يطمح إليه سوى أن يخدم كلمة الله، عن معرفة. انتسابه إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أتى هديّةً له ولها. «هذا بيت الله، هذا باب السماء». كان نارًا في البحث عن معاني الكلمة، وعن الناس الذين انوجدوا أصلاً من أجل أن يكون هذا البحث بحثهم.

الشيء، الذي بدا لي حاجة، أنّ عليه أن يضع من روحه حيث كان لي نصيب في الخدمة، قبل رسامتي كاهنًا وبعدها. الشباب، الذين التفّوا حوله، وجدوا فيه أبًا وأخًا. لم يكن الأب جورج قد تكهّن بعد. نحن في الكنيسة نعتقد أنّ الذي تُرى فيه أماراتُ الأبوّة والأخوّة هو الذي يؤتى به إلى مواقع القيادة في الجماعة. إذًا، كانت أبوّتُهُ تتجلَّى في قدراته القياديّة وانعطافه المحبّ على الآخرين ليعظموا، وأخوّتُهُ في سيره مع الناس واحدًا منهم رغم قامته الممشوقة في الشكل والمضمون.

هذا لم يتخلَّ عنه إلى اليوم الذي أودعناه فيه التراب. كان تواضعه عجيبًا.

على مدى أربعين سنة، كان جورج مسّوح معنا دائمًا لخير هذه الكنيسة وخير شبابها، كبارًا وصغارًا. أسقط مقولة أرسطو: «أيّها الأصدقاء، لا أصدقاء». ذهب جورج إلى الله صديقًا. هذه براعة يسوع في تحقيق التوالف. الصداقة لا يحقّقها لحم ودم. هذا لم يكن لأرسطو أن يستبقه. ما أقوله عن علاقة الأب جورج بأصدقائه في الجسم النهضويّ، يمكن أن يقوله كثيرون من كنيستنا ومن غيرها أو من خارجها. هناك أشخاص اكتسبوا عطيّة أن يُظهروا أنّ الصداقة، عامّةً، هي حقّ. مرّةً، اتّصل بي أحدُ الإخوة المعتبَرين في الجماعة يطلب منّي أن أكلّم الأب جورج، صديقي، في أمر. حدّثني عمّا يريده بتفصيل. جورج كان له أسلوبه في تعبيره عن مواقفه، أسلوب المصارع، بل كان، في سبيل الخير العامّ، مصارعًا في كلّ شيء. ولكنّ الحبّ أو الصداقة كانت مكانتها عنده أعلى من أيّ تعبير. هذه سمةٌ في الشهود، الشهود الحقيقيّين. هذا تراه في الذين أعطاهم الله سلطانًا «للبنيان لا للهدم» (٢كورنثوس ١٣: ١٠). الذي اتّصل بي واحد من أصدقائنا. لم أقل له: «كلّمه أنت. إنّه قريبك أيضًا». لكنّي وعدته بأن أفعل. نفّذت وعدي. كلّمته. أعطاني المتّصل أن أفهم وجهًا من وجوه الصداقة، في فلسفة جورج، سبقني إليه الآخرون، أي أنّه، أي الأب جورج، ترك لبعضٍ مكانًا خاصًّا حتّى في تعبيره عن قناعاته! الأب جورج، في حقيقته، كان «طفلاً»، ابنَ البيت، بيت الله.

عندما تقرّر أن يتخصّص في علم اللاهوت، وجّهه المطران جورج (خضر) إلى معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتيّ في باريس، المعهد الذي درس هو نفسه فيه. ثمّ إلى المعهد البابويّ في روما، ليتابع دراسته العليا فيه. أذكرُهُ كما لو أنّه اليوم يدخل عليَّ، في الغرفة المخصّصة لي من أجل العلم في دار مطرانيّتنا، يتأبّط كتابًا بالفرنسيّة (Dieu est vivant). دخل، ورمى نفسه على كرسيّ يجاورني. «ما هذا الكتاب الذي تحمله؟»، سألته. «هذا من أجل الاستعداد لامتحان الدخول في معهد اللاهوت. أعطاني إيّاه الآن سيّدنا من مكتبته». كان المطران جورج ذا بصيرة ثاقبة. كان يعرف أنّ العلم لا يخلق وحده شخصًا منفتحًا، حواريًّا، يزرع المحبّة والحقّ أينما حلّ أو نزل. ليس صحيحًا أنّ المنغلقين والتكفيريّين لم يحصّلوا جميعهم من العلوم سوى أطرافها. لذلك، اختار جورج مسّوح اختيارًا. كان المطران جورج يرى أنّ هذا الشابّ الواعد، إن أكمل علومه، سيكون «العمل» الذي يتعاطاه، مثله، مختلفًا.

كانت أنطاكية قلب جورج مسّوح وروحه. كان في الخارج (في فرنسا ثمّ في روما) وهنا في آن. قال لي مرّةً في إحدى زياراته إلى لبنان: «ليس في الصيف فقط، بل كلّما استطعت، أريد أن أعطي هذه الأرض وجهي. لا أخاف من إغراءات الغرب. قراري واضح. لا أريد من الخارج سوى العلم، لأخدم هنا كاهنًا متواضعًا. لكنّي أخاف، إن انقطعت عن الإخوة، أن أعود إليهم أستاذًا! أريد الوجوه أن تبقى تذكّرني بأن ليس هناك في الكون كلّه أعظم من أن يبقى الإنسان أخًا». هذا حَرفيًّا هو!

ثمّ عاد. تزوّج، وتكهّن.

عاش الأب جورج حياته أخًا، أي تلميذًا، أي حبيبًا لله وللإخوة. كان هو هو من داخل ومن خارج. هوايته الوحيدة كانت أن يقرأ. «ليس عندنا وقت للتفه»، قال لي مرّةً. جوعه إلى الكلمة، الذي ابتدأ عليه، انتهى عليه. مَدَّته الكلمة إلى آفاقها الرحبة، أي إلى الحبّ. جعلته حاجةً إلى الإخوة من كبيرهم إلى صغيرهم. كان يحبّ الناس من دون أيّ تمييز، ويلبّي أيّ دعوة يرى فيها فرصةً لخدمة الكلمة وتبيان الحبّ الذي تأمر به.

رحل الأب جورج. قالوا: «سيترك فراغًا كبيرًا في كنيستنا وفي وطننا وفي هذا العالم العربيّ الذي كان (جورج) يريده أفضل». هذا صحيح. ولكنّه رحل إلى الملء (كولوسّي ١: ١٩)، إلى الكامل (١كورنثوس ١٣: ١٠)، إلى الذي قال: «في بيت أبي منازل كثيرة» (يوحنّا ١٤: ٢). هذا مسكن القدّيسين. سبقنا ليس فقط لأنّ فتوّته بقيت تضجّ فيه أكثر منّا جميعنا، بل أيضًا لأنّه أعظم في الحبّ وفي الطاعة. دائمًا التلميذ الحبيب يصل أوّلاً (يوحنّا ٢٠: ٤).

 

وفاة الشمّاس سبيرو جبّور

رقد بالربّ على رجاء القيامة الشمّاس سبيرو (جبّور). أقام صلاة الجنّاز المطران أفرام (كرياكوس) والمطران أنطونيوس (الصوريّ) والأسقف أثناسيوس (فهد) والأسقف ثيوذوروس (الغندور) في ٢٨ آذار ٢٠١٨ في دير القدّيس جاورجيوس في دير الحرف مع عدد من الكهنة والشمامسة وبحضور الأصدقاء. 

ألقى المطران أفرام عظة جاء فيها: الشمّاس سبيرو جبور، آيةٌ فريدةٌ من نوعها. حَوتهُ الكنيسةُ، ولم يحوِهِ العالم. لاهوتي كبير، يعرفُ الكتاب المقدس. يعرف ويعرض تاريخ العقائد باليوم والشهر والسنة والاسم، بالمكان والزمان. وفي الوقت عينه، كان بإمكانه أن يغوصَ في المواضيع الروحيّة والنفسيّة. 

عاشر الرهبان وخدم الراهبات. ارتاح الى هذا الدير العريق، دير مار جرجس الحرف. وكان في علاقةٍ عميقةٍ وطويلةٍ مع قدس الأرشمندريت إلياس مرقص الدائم الذكر. الشمّاس سبيرو جبّور معجزة. لا يعرف سرّها إلاّ الله وحده. عشِق كنيسة أنطاكية. وكان يرتاح إلى صلاة الرهبان ويشاركهم في ركعاتهم. هذا أعطاه تواضعًا سحيقًا، فقرًا عميقًا، بساطةَ عيش رهيبة. كان يعرف كيف يكلّم الصغير والكبير، الرجل والمرأة. كان جاهزًا دائمًا للإجابة عن أسئلة الناس. موسوعة نقّالة. وفي الوقت عينه عاش غريبًا على الأرض على مثال سيّده. لم يعرفْ طعم الرفاهية. لذلك لم يذُقْ طعم الفساد.

عاش فقيرًا، مُفتقرًا إلى المسيح أوّلًا، ولكن أيضًا الى إطعام البشر حوله، معلّمًا، متواصل التعليم، واعظًا، من يطلبه يجده جاهزًا للإجابة. يغتذي من الكلمة الإلهيّة ومن تغذية الآخرين بها. يقرأ، يطالع ليلًا نهارًا... كان عاشقًا للربّ ولكنيسته الأرثوذكسيّة. أتجرأ وأقول وأشهد بأنّه أحد القدّيسين المجانين من أجل المسيح. حفر اسمه في سفر القيامة. جاهد حتّى الدمّ... اغتصب الملكوت وهو على الأرض. والناس ينظرون إليه مسكينًا، مختبئًا في سراديب الدير صامتًا، غريبًا بين أتراب قومه... مُتألّقًا، مُتفوّقًا في معارفه الواسعة والدقيقة في آن معًا....

ما يعزّي قلوبنا أنّ الشماس سبيرو وغيره من القامات الروحيّة، يتركون كنوزًا وافرة من كتاباتهم ومواعظهم وفكرهم وجرأتهم، وشطحاتهم الإلهيّة، والتهابهم بالكلمة الإلهيّة بمحبّة الربّ والكنيسة.