Article Listing

FacebookTwitterYoutube
Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 2011 الجنون اللبناني 06/25/2011
الجنون اللبناني 06/25/2011 Print Email
Saturday, 25 June 2011 00:00
Share

الجنون اللبناني

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 06/25/2011

هناك لكل شعب قراءة بمعنى انك يمكن ان تتكلم على طبائع الشعوب أو أقله مناطقها. فما من شك ان الأمم العائشة في شمال اوروبا اكثر هدوءا من ساكني الجنوب. ربما عاد بعض من هذا الى عوامل مناخية ولكن شيئا منه يؤول الى حوادث التاريخ التي ضغطت ضغطا شديدا.

وفق هذه النظرية تأملت في الأحوال النفسية والعقلية للبنانيين. وجدت - ما في ذلك ريب - ان التعلق الشديد بالمال - وهذا ليس حكرا علينا - يعود الى المجاعة التي افتعلها عندنا عمدا جمال باشا السفاح في الحرب العالمية الأولى والتي أباد فيها ثلث الشعب اللبناني. مخافة الجوع توَرث ولا يبيد هذا الخوف بحبوحة جديدة لأن ذكرى الجوع تبقى طويلا في العقل الباطن فاعلة بعد زوال السبب. ان تأكل كثيرا لا يشفيك. الحياة الروحية في عمقها هي وحدها الدواء.

الى هذا يلازمك التعصب الذي لا ينطلق من سبب واحد في الشرائح الدينية. بالتأكيد هناك أسباب مجتمعية. اذا اخذنا المسيحيين وحدهم مثلا فما كان تعصبا ارثوذكسيا - وهو الى الاختفاء أو الى الاضمحلال اليوم - ضد الموارنة يفسره المؤرخ كمال الصليبي على انه صراع بين اهل المدن واهل الريف وهو لا يرى الأسباب اللاهوتية. لماذا نرى مثلا التعصب الماروني ينشأ مع مجيء الآباء اليسوعيين ولم يكن له أثر قبلا. تربية اليسوعيين قائمة على كراهية البروتستنتيين في أوروبا وهذا في تأسيس جمعيتهم فلما جاؤوا الى بلادنا اعتبروا الأرثوذكسية ظاهرة تشبه الانجيليين. هذا التماهي في عقولهم بين الارثوذكسية والهرطقة صار بغضا اجتماعيا.

لست أريد ان أحلل اوضاع كل الشرائح الدينية ولكن يتربى القوم على كلمات رهيبة قد لا تكون مخيفة لغويا ولكن استعمالها خلق جوا من العداء راسخا في النفوس. ان استعمال ألفاظ مشتقة من كلمة كفر وكافر بلا فهم ولا وضوح يفسر وحده القهر الذي تلقاه المسيحيون في عصر المماليك المظلم وبقي ما بعد ذهابهم عنا اجيالا واجيالا وكل تكفير جنون بالمعنى الفني لأن الجنون ان تجعل الآخرين خارج دنيا، ان تبني دنيا اخرى وترسخ نفسك فيها. التعصب الديني اختراع للغة ليست من الوجود الحقيقي تميت نفسك فيها وتميت الآخرين. الشفاء من الجنون يكون بضرب لغته والغائها لأن استمرار اللغة إبادة الحياة.

التعصب الطائفي في الممارسة يختلف عن التعصب الديني وان كان متأصلا فيه. قد لا تعرف شيئا عن المسيحية مثلا ولا تكرهها ولكنك لأسباب سياسية أو غيرها تكره المسيحيين وقد تخشى قوة المسلمين ولا تعرف الا القليل من الاسلام. هذه اجتماعيات من اصل ديني ولكنها جنون بمعنى انك تخلق مجتمعا الكثير منه من خيالك أو جهلك أو ضعف تحليلك اي هو شيء آخر عن الراهن. هو جو اردت ان تعيش فيه وتستلذه ويقتلك كما ان المجنون اخترع جوا لا علاقة له بالوجود وهو يقتله.

***

لا بد هنا ان أقول كلمة عن الجنون نفسه. مرة اجتمعت الى طبيب من أبرز أطباء الأمراض العقلية فقال لي: هذا البلد عنده أعلى نسبة من الجنون في العالم. سألته كيف؟ قال لي: كل بلاد العالم فيها مستوصفات للأمراض العقلية حيث يراقب الذي خرج من المصح كل فترة محددة خوفا من نكسة. الناس العاديون مثلي لا يستطيعون دائما ان يميزوا المجنون من العاقل.

اذا كانت عندنا هذه النسبة الكبيرة من الممسوسين يمكنك ان تفترض بحسب الأصول المتبعة ان من تعامل هو اصلا عاقل واستثنائيا مجنون. قد يكون العكس هو الصحيح. لذلك يحق لك ان تظن انك معرض للأذى انى توجهت. ولكن ان آثرنا رجاء العقل ايحاء لأنفسنا بالاطمئنان فلا مهرب من التحفظ بالكلام والتعامل حماية لأنفسنا من انتشار العصفورية في الطريق.

من آثار الخلل العقلي أو النفسي في بلدنا اني لا أعرف مستوى من الغضب كهذا الذي اجده عند الكثيرين بحيث ان الهدوء أو السلام الداخلي ليس القاعدة عندنا وان الصراخ كثيرا ما أحاط بنا فبتنا لا نعرف النقاش على قواعده فنخلط المقولات العقلية النازلة على اللسان بالانفعال ونحسب ان الاختلاف في المواقف عداء للشخص الآخر. الأنا المجروحة تلقى الأنا الأخرى المجروحة ويتأجج في كل من المتكلمين الجفاء فاما ان ندوس الآخر في شخصه وإما ان نداس ايا كان مضمون المناقشة وان كانت عقلية بحتة فنتلقاها كسباب وشتيمة فما من جدل يبقى الا موتا أدبيا لأحد الطرفين. الجدال عندنا سحق لأن المبدأ ان يبقى أحدنا حيا وان يتلاشى الآخر حتى الفناء. مملكة الموت هي مملكة الجنون.

المتأصل في الجنون من اعتبر ان كل العقلاء مجانين لأنهم خارجون عن العالم الذي اصطنعه لنفسه وهو عنده العالم الحقيقي. على مستوى أدنى من الجنون المطبق الانسان الغضوب الذي لوهلة صنع عالما لنفسه يزعجه ان من كان أمامه هادئ لإحساسه بأن الانسان الهادئ ينتمي الى عالم آخر. وكثيرا ما ينزعج الغضوب من الإنسان الهادئ لأن هذا ينتمي الى عالم السلام وذاك في فترة من الزمن يرفض ان يقيم في عالم السلام. على درجة أدنى من المرض العقلي. الغضوب اخرج نفسه من السكينة اذ يريدك ان تنضم الى عالمه بالصراخ ليثبت صحة الدنيا التي أوجدها لنفسه وحبس ذاته فيها. الغضوب ساكن في الخطيئة والمجنون بات غير قادر عليها. انه أمسى في عالم البراءة الى ان يعود الى إمكان المعصية اذا استعاد عقله.

***

في ترجمة جديدة للعهد الجديد: "سمعتم انه قيل لآبائكم: لا تقتل، فمن يقتل يستوجب حكم القاضي. اما انا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم القاضي (اي انه بمثابة القاتل) ومن قال لأخيه يا جاهل استوجب حكم المجلس، ومن قال له يا أحمق استوجب نار جهنم" (متى 5: 21 و22).

الفلسفة المبني عليها كلام السيد هذا هي ان الآخر موجود وانك تتلقاه لتنوجد وليس من لقاء بينكما اذا انفعل واحد منكما لأنه يكون قد خرج عن عالم السكون الذي يجعل الاثنين واحدا بالمحبة. يحتمل السكون ان يكون الآخر مختلفا عنك وتلتقيان بشركة القلوب. اذا كنت تؤمن بـِ"يا عبد كل شيء قلب" تكون الحقيقة في تلاحم القلوب اذ تسطع الحقيقة بهذا التناضح قبل ان يتم التفاهم. الحقيقة تصلان اليها معا ولا تهمك فرديتك المنعزلة ولكن يهمك النور. الغاضب يسعى الى ان يفرض أناه على أناك. القائم في السكون قادر على ان يزرع فيك السكينة ويشفيك. عندئذ فقط يستقيم العقل.

من الجنون عندنا السواقة التي اذا لم تستقم تبقى معرضا لجنون ينشأ فيك أو جنون السائق الآخر. نموت مجانيا في هذا البلد الى ان نخضع جميعا للقانون الذي هو من نطاق العقل. لا نحب العقل في لبنان. متى يهبنا الله نعمة التعقل نرسي عليه بلدنا؟

Last Updated on Saturday, 25 June 2011 09:55
 
Banner