Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home Raiati Bulletin Raiati Archives Raiati 2020 العدد ٥٢: مغامرة الوديع والمتواضع القلب معنا
العدد ٥٢: مغامرة الوديع والمتواضع القلب معنا Print Email
Written by Administrator   
Sunday, 27 December 2020 00:00
Share

Raiati logo web 2020

الأحد ٢٧ كانون الأوّل ٢٠٢٠ العدد ٥٢ 

الأحد الذي بعد عيد الميلاد

تذكار القدّيسين: يوسف خطيب مريم، داود الملك، ويعقوب أخي الربّ والقدّيس إستفانُس أوّل الشهداء

 

كلمة الراعي

مغامرة الوديع والمتواضع القلب معنا

5220في عيد الميلاد كثيرًا ما تستوقفنا النعمة المنكشفة فيه. فظهور النجم للمجوس، ثمّ ظهور جوق من الملائكة يسبّحون، وما رافق هذَين الظهورَين من زيارة للمخلّص قام بها على انفراد كلّ من الرعاة والمجوس الآتين من المشرق، وضعت ولادة المخلّص في إطار من الفرح والرجاء والشركة الإلهيّة-الإنسانيّة.

لكنّ يسوع اضطُرّ إلى أن يهاجر بعد أيّام قليلة على ولادته، لكون هيرودوس ومَن معه تربّصوا به شرًّا وعقدوا النيّة على القضاء عليه. فاهتمّ يوسف، بأمر من الملاك، بأن يأخذ يسوع وأمّه إلى مصر حتّى زال الخطر بوفاة هيرودوس، ثمّ أن ينتقل منها إلى أرض إسرائيل ويسكن الناصرة، تمامًا كما أُوحي به إليه (متّى ٢: ١٣، ٢٠ و٢٣).

بالفعل، ظروف ميلاد المسيح في المغارة، وغياب الاستقبال اللائق بالمخلّص، واقتصاره على الرعاة والمجوس والملائكة، تبعتها أحوال أخرى أكثر إيلامًا، كالاضطهاد والتشرّد والهجرة القسريّة منذ نعومة أظفاره، أحوال يعرفها عالمنا المعاصر بحدّة. نعم، ولادة يسوع في مذود، ثمّ نيّات هيرودوس العدوانيّة تجاهه وبطشه به، وأخيرًا هربه إلى مصر وعودته المستورة إلى الناصرة، هي حلقات متّصلة بسرّ ميلاده وبحمله طبيعتنا بمآسيها كلّها، تلك المتراكمة عبر التاريخ، وتلك التي نضيفها عليها كلّ يوم. 

وإن كان الميلاد جرى في مكان ما من البرّيّة، أي خارج مجتمعاتنا الإنسانيّة ومدنيّتنا الجافّة والقاسية والظالمة أحيانًا، وفي موسم شتويّ مصقع، إلّا أنّ يسوع توسّط واقعنا المتلوّن بألوان الوحدة والفقر والظلم والعتمة، وهو يعوّل على أن يتحوّل، بنعمته وبفعل ظهوره في الأردنّ،  ثمّ بشارته العلنيّة وموته وقيامته، إلى شركة وغنى وسلام ونور فيه، إن اقتبلناه مخلِّصًا ومعلّمًا إيّانا سبل تحقيقه.

الحقّ يُقال إنّ مظاهر الضعف في الميلاد من جهة، والظروف القاسية المحيطة به من جهة أخرى، لم تحجب النُّور الظاهر والمعتلن بالطفل الجديد. فهو ظهر نورًا للناس من دون أن تغرّبه شرورهم وخطاياهم عن الإخلاص التامّ للآب والأمانة الكاملة لمشيئته. على هذا الأساس، يمكننا القول إنّ يسوع هو النور في بيت لحم، وفي ذهابه إلى مصر، وفي عودته إلى إسرائيل؛ وهو النور في المذود كما في البيت في الناصرة؛ وهو النور وسط شعبه وفي بلاد الغربة؛ وهو النور للرعاة البسطاء وللمجوس الحكماء؛ وهو النور للقريبين والبعيدين، للصالحين والطالحين، للخيّرين والأشرار. إنّه حجر الزاوية الذي تقوم عليه البشريّة في كرامتها المعطاة لها من الله، وعليه تتحطّم كافّة محاولات تقزيم هذه الكرامة أو تشويهها أو تهميشها أو تزوير حقيقتها أو الحدّ من تألّقها.

وإن كانت يد الشرّ قد نوت أن تهلك الطفل الجديد، إلّا أنّ ساعة دنوّ أجله كانت بعيدة، إذ كان عليه أوّلًا أن يظهر لإسرائيل في الأردنّ باعتماده من يوحنّا، ثمّ أن يتمّم الرسالة التي أودعه إيّاها الآب. استنفر ميلادُه قوى الشرّ وألّبها عليه، وأمام عجزها في القضاء عليه، التفتت نحو المخلوق على صورته فأهلكت أولئك الصبيان الأبرياء من بيت لحم وضواحيها الذين هم «من ابن سنتَين وما دون» (متّى ٢: ١٦). أمّا هو فدخل في سياق حياتنا الطبيعيّة، فكان الطفل الطيّع بين يدَي حارسه يوسف وأمّه مريم، وهو في الوقت عينه طائع للآب ومحقِّق في ذاته ما سبق وقاله عنه الأنبياء سواء أنّ الله دعاه من مصر أو أنّه سيُدعى ناصريًّا (متّى ٢: ١٥ و٢٣). يخبرنا الإنجيل أنّ أوّل مكان إقامة معروف له كانت مدينة الناصرة، حيث وجد له مكانًا بيننا فسكن فيها وترعرع (متّى ٢: ٢٣)، وذلك بانتظار أن يصير قلبنا مسكنًا له، إن قبلناه بالإيمان واقتبلنا كرازته وأخذنا بوصاياه، وبانتظار أن تستعلن المدينة الجديدة، أي الكنيسة، فتصير مكان إقامتنا الدائم والنهائيّ.

وجدان الكنيسة، في مسيرتنا من عيد التجسّد إلى عيد الظهور الإلهيّ، أنّ وداعة هذا الطفل وتواضعه هما مصدر قوّته في دحر ما هو جاثم على قلب الإنسان ويتهدّد حياته: الخطيئة والشيطان والشرّ والموت. في ميزان الإنسان الساقط، مثل هذه الصفات غير نافعة لإبحار مضمون. أمّا في ميزان الله، ففي هذه الصفات تكمن أسس الغلبة، الأمر الذي أصرّ الربّ على أن نتعلّمه منه: «تعلّموا منّي لأنّي وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم» (متّى ١١: ٢٩). الخبرة المختزنة في الكنيسة هي البرهان على صحّة هذا القول وفاعليّته، عدا عن أنّه مؤسَّس أوّلًا على إرادة الله في خلاص الإنسان، وثانيًا على طاعة الابن المتجسّد له في تحقيق هذا التدبير، وأخيرًا على عمل الروح القدس المستمرّ حتّى يكتمل كلّ التدبير. لنا في أيقونة الميلاد الأخرى، المعروفة بأيقونة «الطفل الجاثم» المتّكئ على وسادة والمتّشح بلباس ملوكيّ، الختم الأكيد على شهادة الوداعة والتواضع التي أراد يسوع أن نختبر قوّتهما باسمه ونقتدي بمثاله. هلمَّ بنا إذًا إلى رياض النعيم حاملين فيها هذا الطفل في قلوبنا ورافعين العالم على مناكبنا برجاء يدرّبنا عليه الروح القدس!

+ سلوان
مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

 

الرسالة: أعمال الرسل ٦: ٨-١٥ و٧: ١-٥

في تلك الأيّام إذ كان إستفانس مملوءًا إيمانًا وقوّة كان يصنع عجائب وآياتٍ عظيمة في الشعب. فنهض قومٌ من الجمع الملقّب بمجمع اللبرتيّين والقيراونيّين والإسكندريّين والذين من كيليكية وآسية يُباحثون إستفانس. فلم يستطيعوا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان ينطق به. حينئذ دسّوا رجالًا يقولون إنّنا سمعناه ينطق بكلمات تجديف على موسى وعلى الله. وهيّجوا الشعب والشيوخ والكتبة معًا. فنهضوا واختطفوه وأتَوا به إلى المحفل. وأقاموا شهود زور يقولون إنّ هذا الإنسان لا يفتُر عن أن ينطق بكلمات تجديف على هذا المكان المقدّس والناموس، فإنّنا سمعناه يقول إنّ يسوع الناصريّ هذا سينقُض هذا المكان ويُبدّل السُنُن التي سلّمها إلينا موسى. فتفرّس فيه جميع الجالسين في المحفل فرأوا وجهه كأنّه وجه ملاك. فقال رئيس الكهنة أتُرى هذه الأمور هكذا؟ فقال أيّها الرجال الإخوة والآباء اسمعوا. إنّ إله المجد تراءى لأبينا إبراهيم وهو في ما بين النهرين من قبْل أن سكن في حاران، وقال له اخرجْ من أرضك ومن عشيرتك وهلمّ إلى الأرض التي أُريك. حينئذ خرج من أرض الكلدانيّين وسكن في حاران. ومن هناك نقله بعد وفاة أبيه إلى هذه الأرض التي أنتم الآن ساكنون فيها، ولم يعطه فيها ميراثًا ولا موطئ قدم. ثمّ إنّ سليمان بنى له بيتًا، لكنّ العليّ لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي، كما يقول النبيّ: السماء عرش لي والأرض موطئ قدميّ. فأيّ بيت تبنون لي يقول الربّ أم أيّ موضع يكون لراحتي؟ أليست يدي هي صنعت هذه الأشياء كلّها؟ يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان. إنّكم تُقاومون الروح القدس دائمًا. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أيّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء الصدّيق الذي صرتم أنتم الآن مسلّميه وقاتليه. أنتم الذين أخذتم الناموس بترتيب الملائكة ولم تحفظوه. فلمّا سمعوا ذلك تمزّقوا في قلوبهم وصرفوا عليه بأسنانهم. وهو إذ كان ممتلئًا من الروح القدس، تفرّس في السماء فرأى مجد الله ويسوع قائمًا عن يمين الله، فقال ها أنذا أرى السماوات مفتوحة وابنَ البشر قائمًا عن يمين الله. فصرخوا بصوت عظيم وسدّوا آذانهم وهجموا عليه بعزمٍ واحد، وأخرجوه خارج المدينة وجعلوا يرجمونه. ووضع الشهود ثيابهم لدى قدمَي شابٍ اسمُه شاول، وجعلوا يرجمون إستفانُس، وهو يدعو ويقول: أيّها الربّ يسوع المسيح اقبَلْ روحي. ثمّ جثا على ركبتيه، وصرخ بصوت عظيم: يا ربّ لا تُقِمْ عليهم هذه الخطيئة. ولمّا قال هذا، رقد.

 

الإنجيل: متّى ٢: ١٣-٢٣

لـمّا انصرف المجوس، إذا بملاك الربّ ظهر ليوسف في الحلم قائلًا: قم فخُذِ الصبيّ وأُمّه واهرُبْ إلى مصر، وكُنْ هناك حتّى أقول لك، فإنّ هيرودوس مزمع أن يطلب الصبيّ ليُهلكه. فقام وأخذ الصبيّ وأمّه ليلًا، وانصرف إلى مصر. وكان هناك إلى وفاة هيرودوس ليتمّ المقول من الربّ بالنبيّ القائل: مِن مصر دعوتُ ابني. حينئذ لـمّا رأى هيرودوس أنّ المجوس سخِروا به، غضب جدًّا وأَرسل فقتل كلّ صبيان بيت لحم وجميع تخومها من ابن سنتين فما دون على حسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس. حينئذ تمّ ما قاله إرمياء النبيّ القائل: صوتٌ سُمع في الرامة، نَوحٌ وبكاءٌ وعويل كثير، راحيل تبكي على أولادها وقد أبَتْ أن تتعزّى لأنّهم ليسوا بموجودين. فلمّا مات هيرودوس، إذا بملاك الربّ ظهر ليوسف في الحُلم في مصر قائلًا: قُم فخُذ الصبيّ وأُمّه واذهب إلى أرض إسرائيل فقد مات طالبو نفس الصبي. فقام وأخذ الصبيّ وأُمّه وجاء إلى أرض إسرائيل. ولـمّا سمع أنّ أَرشيلاوس قد ملك على اليهوديّة مكان هيرودوس أبيه، خاف أن يذهب إلى هناك، وأُوحي إليه في الحلم فانصرف إلى نواحي الجليل، وأتى وسكن في مدينةٍ تُدعى ناصرة ليتمّ المقول بالأنبياء إنّه يُدعى ناصريًّا.

 

عمل الكنيسة الشفائيّ في زمن الصدمات

يأتي مباشرة بعد عيد الميلاد ذكر أطفال بيت لحم الشهداء، وجرح صدمة أمّهاتهم وصراخهنّ: «صوت سمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزّى، لأنّهم ليسوا بموجودين» (متى ٢: ٨). هذا العويل يذكّرنا بحادثة انفجار مرفأ بيروت الذي خلّف صدمة نفسيّة عميقة لدى الكثير من الأمّهات اللواتي فقدن أولادهنّ. ما هو دور الكنيسة، الكاهن والمؤمنين، في زمن الصدمات؟

للكاهن والرعيّة دور أساس في مرافقة الناس المتألّمين بهدف أن يصلوا إلى الشفاء. الهدف هو شفاء الإنسان بكلّيّته (أي شفاء النفس والجسد)، وليس مجرّد معالجة القلق الداخليّ والخوف الذي ينتج من الصدمة. تهدف مرافقة هؤلاء المتألّمين إلى مساعدتهم على تجديد حياتهم الروحيّة عبر تفعيل حياتهم بالمسيح المتجسّد، وتعميقها ليصير الإنسان إلهًا بالنعمة. وتاليًا، فإنّ الغرض من الرعاية هو شفاء الإنسان وتألّهه، وليس مجرّد تقديم المشورة بهدف تهدئة المشاعر المنهكة أو علاج موضعيّ لمرض ما. وهذا الشفاء الشامل يتمّ بنعمة الروح القدس عبر أسرار الكنيسة. سرّ الشفاء هذا يخدمه الكاهن بمؤازرة الرعيّة، ويتمّمه الله.

تنتج من الصدمة اضطرابات نفسيّة وشعور بالضغينة تجاه مسبّبي الصدمة. تتحرّك الأحقاد الكامنة في اللاوعي بواسطة العواطف الغريزيّة لتؤثّر في السلوك والعلاقات الاجتماعيّة. السبيل الوحيد لحلّ المشاكل العلائقيّة التي يعانيها الناس هو الوصول إلى المسامحة والغفران. فالغفران هو طريق الشفاء، لأنّه في النهاية طريق للحفاظ على الحياة. إنّه ليس عطيّة يمنحها المسامح للآخرين، ولكنّه نعمة إلهيّة يسكبها الروح القدس على الإنسان المتألّم ليقبلها كعطيّة من الله الرحيم، فيتجاوب مع عطيّة الله ويقوم بملء إرادته بتسليم حياته، وكلّ آلامه، للربّ يسوع المصلوب والقائم، وهو الطبيب الحقيقيّ الوحيد الشافي للنفوس والأجساد. لكنّ مسيرة الشفاء فيها الكثير من الصراع والتخبّط الداخليّ والبحث عن الرجاء والسلام، وتحتاج إلى مرافقة الكاهن، ليتمكّن الإنسان من تعميق إيمانه بالمسيح.

إنّ تعميق الإيمان يكون باستعادة التأمّل بأعمال الله الخلاصيّة (أي التجسّد والصلب والقيامة) ومحبّته لنا: «ولكنّ الله بيّن محبّته لنا، لأنّه ونحن بعد خطأة مات المسيح لأجلنا» (رومية ٥: ٨)، والرجاء الذي أمامنا. هذا ليس مجرّد تذكّر عقليّ؛ لكنّه تحوّل داخليّ والسير بحياة جديدة مؤسّسة على الإيمان بهذه الأمور الخلاصيّة، فيودع الإنسان حياته المسيح. وهكذا يتعافى ممّا أصابه من جراح نتيجة الصدمة. هنا يخرج الإنسان المتألّم من كونه أسير ذكريات أليمة تضعه في خوف وقلق إلى رؤية الأمور بحسب تدبير الله وعنايته له كإنسان مخلوق على صورة مجد الله. يدخل نطاق الملكوت وينهل من ينبوع الفرح والسلام ويكون شاكرًا «لعطيّة الله التي لا توصف» (٢كورنثوس ٩: ١٥). عندما يكتسب المرء القدرة على فهم حوادث الحرب بطريقة تتناسب وإيمانه، حينئذ يستعيد سلامه الداخليّ. وهكذا ينمو روحيًّا ويشفى داخليًّا. إذًا، تجديد الحياة الروحيّة وسيلة أساسيّة للتعافي من صدمة الحرب. ليس التعافي بعمليّة سحريّة، ولكنّه عمليّة ديناميكيّة تتضمّن استعداد الإنسان للشفاء وتفعيل إيمانه عبر الصلاة والاعتراف. فتأتي التعزية الإلهيّة وتشفي الإنسان الداخليّ. يرافق الكاهن أعضاء العائلة المتألّمة، ويساهم بدعم من المؤمنين، بنقل نعمة الله الشافية، بالأخصّ بواسطة الأسرار المقدّسة. وهذا يتمّ على مراحل.

المرحلة الأولى ما بعد الصدمة تتطلّب دعم الكاهن الآنيّ للعائلة المنكوبة وحضوره الفعّال في ما بينها، ووقوفه إلى جنبها بشأن قرارات مؤلمة قد تتّخذها، كإجراء عمليّة جراحيّة حرجة أو بدء معاملة الهجرة. كذلك، تميل العائلة إلى الاعتماد على الكاهن، لكونه الشخص الموثوق به، للمساعدة على قضاء حاجات إداريّة، كقضايا التأمين القانونيّ والطبّيّ، والدعم الاجتماعيّ. وفي بعض الأحيان، تكون الحاجات أكثر معيشيّة، بدعم من أبناء الرعيّة، كتوفير وجبات الطعام والملجأ والملابس. ربّما يقوم دور الكاهن بتوجيههم إلى من يساعدهم بشكل أفضل كإرشادهم نحو العلاج النفسيّ، ما يساعد على تخطّي العائلة مسألة استعمال الخدمات الصحّيّة النفسيّة لكونها «تابو» في المجتمع العربيّ. وهكذا، تهيّئ المرحلة الأولى العمليّة بالمرحلة الثانية الداخليّة.

المرحلة الثانية هي الأطول، وتتطلّب العمل المستمرّ على علاج روحيّ يقوم به الكاهن بمؤازرة الرعيّة. فتجربة الصدمة غالبًا ما تثير مشكلات روحيّة وتحدّيات وجوديّة. يتدرّج الكاهن على الولوج بتواضع ومهابة في عمق آلام أبنائه، لأنّ الشفاء لا يتمّ إلّا عبر معرفة أسباب الألم ومعالجتها. فيقودهم ليس إلى نسيان الصدمة وتجاهلها، بل بالحريّ إلى الانتصار عليها عبر الغفران. يجري الكاهن تقويمًا للوضع الروحيّ لهؤلاء الذين يعانون اضطراب ما بعد الصدمة، لمعرفة الاحتياجات المختلفة، وكيفيّة التعاطي معهم بناءً على قدرتهم على التكيّف، ومستوى إيمانهم، وخبراتهم السابقة.

دور الكاهن بأن يحمل الناس بصلاته، فيذكّرهم دومًا أمام الله، ويتعاطف مع ألمهم، مدركًا مراحل الحزن التي يمرّون بها، ومتفهّمًا بذلك مشاعرهم وانفعالاتهم. إنّه الشخص الذي يتّخذ على عاتقه خدمة حضور الله الراعي والفاعل، في الأوقات التي يبدو فيها أنّ الله غائب. إنّ استعداده لتحمّل المشاركة في آلام العائلة ومعاناتها، مصغيًا لهم باحترام، ومحتضنًا إيّاهم، لهو فعل محبّة من صميم أبوّته الروحيّة. إنّ المشاركة في الألم تعني تفهّم مشاعرهم الناشئة من تناقض، أو ارتباك، أو خوف، أو عار، أو غضب واضح تجاه الله، من دون تصنيفها أو نقدها على أنّها غير مناسبة أو خاطئة أو غير أخلاقيّة. يفهم الكاهن أنّها صرخات الناس المنتهكين... لذلك، لا يَظهر مصدومًا أو متفاجئًا، ولا يسمح لنفسه بالدفاع عن اسم الله، بل يكون له ما يكفي من النعمة والشجاعة لمواجهة هذا المدّ العالي من المشاعر القويّة وردود الأفعال القاسية الصادرة عن قلب الإنسان المتألّم. وتاليًا، فإنّ الإصغاء الجيّد يتطلّب الكثير من التعاطف والحبّ والصبر. فالكاهن يكون ذلك الشخص المتميّز، المستقرّ عاطفيًّا والقادر على التزام الهدوء «وسط الفوضى». كذلك يتعامل الكاهن مع أسئلة وجوديّة يطرحها الإنسان المتأزّم حول معنى الحياة وموقعه فيها، فيساعده على إدراك تساؤلاته الدينيّة (لماذا حدث هذا الأمر لي؟ لماذا الشرّ والألم؟...). يكشف الشخص المتألّم عن صدمته، ويخلق شبكة من المعاني حول الأحداث التي لا توصف التي مرّ بها، جاعلًا منها سردًا متماسكًا. يغوص الكاهن كأب روحيّ في قلب الإنسان المتألّم، وأفكاره، ومشاعره، فتنكشف أمامه مسيرة حياة الآخر. وهذا العمل هو «فنّ الفنون وعلم العلوم» (القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ).

أمّا مؤازرة أبناء الرعيّة، جسد المسيح الحيّ، فهي أساسيّة لإرساء حياة الشركة فيها وتعزيز أجواء الرحمة والتضامن والمحبّة المسيحيّة والتنسيق في ما بين أعضائها. وهذا غالبًا ما يؤدّي إلى تكوين شبكة أو فريق عمل من المؤمنين المختصّين: أطبّاء الصحّة العامّة والصحّة النفسيّة، وممرّضات، ومساعدين اجتماعيّين، ومدبّرين... هذه المجموعة من أبناء الرعيّة تنسّق مع الكاهن لسدّ الحاجات الطبّيّة والاجتماعيّة. إنّ عملًا كهذا يهدّئ من شعور المصاب بالوحدة والعزلة، ويعزّز الإيمان عبر دعم هؤلاء الذين يظهرون للمصاب وجه المسيح المحبّ والحنون، ما يساهم في تعافيه.

وهكذا، عبر الإصغاء الجيّد والمصلّي، وبحياة الشركة في الرعيّة ومحبّتها المضحّية، تبدأ عمليّة شفاء الإنسان، يخدمها الكاهن، كخادم لسرّ المسيح الذي «بجراحه شفينا» (أشعياء ٥٣: ٥).

Last Updated on Tuesday, 22 December 2020 17:48
 
Banner