Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 2010 تـــــأمـــــل في الأعمـــــــار 09/04/2010
تـــــأمـــــل في الأعمـــــــار 09/04/2010 Print Email
Saturday, 04 September 2010 00:00
Share

تـــــأمـــــل في الأعمـــــــار 

المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 09/04/2010

هل يسوغ لطاعن في السن أن يتأمل في كل مراحل حياته أو حياة الآخرين وهو لا يعيش إلا بالذكرى، والذكرى فيها استخدام العقل في وقت تأمله. أي إنك لا تستطيع أن تحياه الآن ولا أن تحييه فإن ماضيك فاتك والأعمار ليست منقطعة بعضها عن البعض. لقد تداخلت فيك وأنت لست حزينا ومع ذلك لا يقدر الشيخ أن يدفن كل ماضيه لأنه ليس مجرد شرائح زمنية. هنا سر الإنسان أنه واحد.
وهناك من لا يعيش كل أعماره بالكثافة الواحدة. فقد يكون مبتور الطفولة أو قافزا فوق شبابه وقد لا تأتيه شيخوخته متعبة فلا يستطيع ان يقول مع الشاعر: "سئمت تكاليف الحياة" فيظل متوئبا في زمن ينتظر فيه الموت. مع ذلك لا بد من جمع كل المراحل في خطاب واحد. وهذا ما سوف أحاوله لمنفعتي وربما لمنفعة بعض.


راقبت الطفولة منذ بضع من سنين وأفادتني المراقبة لأن تذكر الطفولة الحقيقي غاب عني كثيراً اذ لا اعرف خيطاً موصولاً بين آخر طفولتي وشبابي والكهولة. فجاءت مراقبتي الحالية بديلة من ذاكرة غائبة. وفي احتسابي ان من يسمى الراشد لا قدرة له على ان يفكر في رشده بالأطفال الذين ليسوا قاصرين اذ لهم رشد خاص بهم. لهم لغتهم وعلاقتهم بالكون وصلة حقيقية بالله كما يحلو له ان يلهمهم والكلمات التي يستعملون هي كلماتك ولكن لها مدلول عندك فيه حدس فقط ولكنك لا تقدر على ان تستعمل ازاءه آلتك العقلية الحالية. ان لهم مقولات تختفي وراء كلماتهم. لذلك انت في تنقيب عنهم لأنهم لا ينسخون الفاظك انت ولو قالوها.
عندما تقول لي طفلة في الخامسة من عمرها لا تدرس في مدرسة دينية وذلك بفرنسية بليغة حرفيا: "الأطباء يعالجون المرضى ويسوع يشفيهم بحكمته ومحبته" لا اجد عندي منهجا عقليا حتى افهم هذا القول. في فحصنا لفكر هذه الطفلة لا أجد إمكانا لاستعمالها لفظة "حكمة" ولو فهمت استعمالها لكلمة محبة. ثم كيف تفرق بين معالجة الأطباء للمرضى وشفاء المسيح لهم والكثر من الراشدين لا يعرفون هذا الفرق؟ هل أتت هذه الطفلة بمعجزة لا تقع تحت الفحص العقلي؟
أترابها الذين لم يبلغوا هذا المبلغ مع انهم لم يصلوا هذه الذروة عندهم لسانهم أحياناً لا افهمه وعندهم ايضا علاقة بالله تختلف عن علاقتنا نحن به.
•••
حادثة اخرى تركت فيّ غموضا كليا. أتى اليّ بطفلة أبوها كانت في الثامنة. حدثتني هي في الفيزياء والكيمياء والفلك، بمفردات علمية دقيقة كما عرفناها نحن في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرنا. هذه افهم ان ذويها كلموها بالعلوم والتقطت المعاني كلها في سن مبكرة جدا، ولكن طفلة الخامسة التي ذكرت لم تسمع شيئا مثل هذا في عائلتها ولا مدرستها. هل لنا دخول معقول الى دنيا الأطفال اذا تجاوزوا الحديث المألوف عن لعبهم وطعامهم ومألوف الحياة البيتية؟
اذا عبرت من هذه الحال الى حال الشباب من نافل القول ان عندهم جموحا وآمالا وكثيرا مما نعتبره اعتدادا بالنفس حتى العنفوان وعقدا موروثة من الطفولة الأولى واكتشافا للجنس الآخر بما يتضمّن هذا من شاعرية تذهب بهم أحياناً حتى اللهب كما تلحظ أحياناً قدرة علمية كبيرة وتوقا الى المعرفة الواسعة.
هذه سن كاملة بذاتها يبقى فيها أحياناً اثر من الطفولة عاشوها منتقصة. وقد تبقى الطفولة والشباب حتى آخر الحياة بشيء من الابتسار فتأتيك الكهولة صبا مخفيا محضونا. وأحياناً كثيرة يطل رشد كبير على سن الشباب وكأن الأعمار لا تتابع بصورة منطقية أو لا تراصف فيها.
يقال هنا وثمة ان الإنسان لا ينضج فكريا الا اذا بلغ الأربعين. اذا كان الأمر كذلك كيف تفسر ان هناك من انتهت عبقريّتهم الشعرية وهم في العشرين؟ ويقال ان التدين العظيم مرتبط بسن متقدمة نسبيا وقد لاحظنا ان الحماسة الدينية حتى التصوف بادية على شبان كثيرين وان هؤلاء لم يعرفوا الجهالة الخلقية في هذه الحقبة أو قاموا بدعوة روحية لاهبة قصر عنها المسنون. هل كان داود النبي يتكلّم على قلة من الناس لما قال: "خطايا شبابي وجهلي لا تذكر"؟ واضح في رؤيتي اجيالا كثيرة ان محبة الله لا علاقة لها بمرحلة من مراحل العمر والا كيف بلغت تيريزا الطفل يسوع قداسة لا شك فيها وقد توفيت وهي في الخامسة والعشرين؟ هنا يبدو لي ان الله ينير من يشاء ويسطع بقوة فائقة حيث يشاء.
•••
الكهولة سن محببة اليّ مع انها في بداءتها تحمل إحباطا كبيراً وهذا ما سماه صاحب المزامير "شيطان نصف النهار". غير انها تحمل صبرا جميلا بعد ذهاب الإحباط. هي سن الحضن للشباب والرأفة بالكل والسماحة الكثيرة ربما بسبب من الهشاشة التي يتعرض لها الكهول أو الإحساس ببدء الانهيار أو التخاذل امام صعوبات الوجود التي تأتيك من كل صوب. هنا يخطر على البال قول الشاعر: "تعب كلها الحياة". لعلّ عظمة هذه المرحلة انك تمحص دينك فيها وتفتش عن العقلانية فيه. قد لا تفهم العقيدة فهما عميقا ولكنك تسلم لله ربما لأنك لمست تفه الجسد والمال والسلطة وانك لا تنتظر الكثير من الشيخوخة المقبلة.
ولكن ما من شك على وجه العموم في ان الطاقات تتجلى في هذه الحقبة وان الكلمة تصبح اكثر نضجا واتزانا لأن الاعتزاز الشبابي كثيرا ما يضعف. غير ان شيئا لا يمنع الكهول من ان يقتربوا من الرب اقترابا كبيراً وان كانت الشهوة لم تنطفئ وليس للشهوة عمر.
الشيخوخة ليس لها بداءة ولا لها انتهاء. جسديا هناك اتعاب كثيرة قد نستسلم لها حتى ما يقارب اليأس وتستمر بعض خصال الكهولة كالسماحة التي تعاش أحياناً كتسوية مع ضعف اهل الحقب السابقة. يغريك القول ان الناس هم هكذا وغالبا ما سيظلون وانك غير نافع لكثرة لا شيء يدل على انها تائبة اليوم أو غدا.
واذا بقي عقلك صافيا كليا لا يعوزك الإبداع العقلي. العقل وحده لا سن له واذا كان هو مقر إلهام اساسي فلا يعتري الشيخ حزن بالضرورة. غير ان رتابة الناس وأقوالهم ومناهجهم وعاداتهم من شأنها ان تدفع الحس الى المحافظة على ما ألفه الشيخ في هذه الحياة بلا رغبة جامحة الى التغيير. وفي هذا خطر كبير. كيف يغلب الشيخ جسده المتهاوي وكل جسد يتهاوى؟ كيف يمنع تخلف الصحة في جسده ونفسه لئلا يخسر اندفاعه؟ كيف يبقى حيا في جدة روحه فيستأثر الله في يوم حكمته به ليظل ايقونته للأجيال اللاحقة؟
كيف يبقى الله حيا في كل حقب حياتنا؟ هذا هو السؤال.

Last Updated on Saturday, 04 September 2010 14:10
 
Banner