Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 مقومات الوطن 01/23/1993
مقومات الوطن 01/23/1993 Print Email
Saturday, 23 January 1993 00:00
Share

مقومات الوطن  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت في 23 كانون الثاني 1993

الوطن أرض وتاريخ وخدمة وتطلع. الوطن ارض عليك ان تختارها دائما عطاء من التاريخ اي هبة من رعاية الله لأبنائها. ولذلك لا تناقش الأرض لأنك لا تناقش التضحيات التي انشأتها ولا الضحايا التي شهدت لها وتراها نهائية على قدر نهائية الكيانات الأرضية. نهائية في زمان البشر وواحدة. وقد تتعرض للسلب او الاجتزاء. اذ ذاك تستعيدها بما ملكت يداك وما ملك حبك. ولا تتصالح وارتهانها. وتحبها ليس لكونها اجمل أرض وقد لا تكون ولكن لأنك تقيم فيها بسبب من نعمة ورضاء إلهي. وتموت من أجلها لأنها مكان نموك في العقل وفي المحبة وشرط الانتعاش لذريتك وانطلاقة للرسالة التي تحمل.

وقد تدول فيها الدول حتى تسترجعها لأنها ليست منة من أحد فإنها قائمة بسبب من صمودك وبسبب من فهمك. وانت تخلص لها كائنة ما كانت سياسة الحكم فيها وقد تكون فيها محبطا ولكنك تسعى فيها الى العدل وتسعى فيها الى الحرية وعلى قدر تمكينهما يزداد تعلقك بها. واذا جعلتها مكان المصالحة تصبح إطار الجمال لكل من عاش عليها وتصير لك عنوان فخار. وما من مصالحة بلا توتر فالبشر أذواق وأمزجة متفاوتة الاتزان ومتفاوتة المعرفة ومتفاوتة الإخلاص. واذا ضعف فيك الإخلاص فتسعى اليه من جديد تائبا. والمصالحة ثقة متجددة بين المواطنين. والثقة ليست بلهاء ولكنها رجاء وفي هذا حد أدنى من الإيمان ان الله قادر الا يقسي القلوب وقادر على إنارة الأذهان. وما من وطن بلا إيمان بالناس المحيطين بك فأنت لا تأخذهم من خيالك ولكن تأخذهم من صبرك ومن جدك. وتتعاون بدءا من نفسك لأن المحبة لا تدين احدا ولا تحكم في النيات ولكنها تحكم في عمل الآخرين. ولذلك يقوم الوطن بالأنفس الكبيرة التي لا تعرف الصِغر ولا الخيانة.

لذلك لا تقتحم احدا ولا طائفة او اية فئة من الناس. والاقتحام استبداد وعنف حتى زوال الميثاق الذي يربطك بالجميع والميثاق هو الديموقراطية الفهيمة المتكونة يوما بعد يوم من هذا العدل الذي يجعلك تقبل تبدل الحكومات لا تبدل النظام والنظام ان تنتظم الحرية بالحرية والفكر بالفكر وقد أثبتت التجارب ان الغاء الجماعة للجماعة او الحزب للأمة شيء لا يدوم. ان يحيا الناس بلا عنف في إبداع كبير وثقافة عالية يوفر عليهم العقائديات المتشنجة التي تصنفهم وتقيم بينهم العداوة وتزول كما يزول كل فكر بشري لا يقوم على بساطة القيام للكيان الوطني وثباته بما هو عليه من تراب وناس.

قد تيأس من الدولة وكذبها. انها ليست هي الوطن. فاذا سموت انت روحيا وسما بك الآخرون تأتون بدولة على صورتكم. فالحكومات تدول والوطن ينبغي الا يدول. ويدول اذا حجمته بسبب من خطايا او أحلام لا علاقة لها بواقعية الأرض. ويبدو لي ان قلوبنا متجهة الآن الى هذا الشيء المتواضع الذي هو كيانية لبنان. هذا هو المعطى وانت تبدأ بالمعطى وللكيان ان يتصل بسبب من تجانس ولكنه يتصل بدءا من ذاته ويوصف هذا الوطن حضاريا ويوصف تاريخيا وهذا يحدد له دورا ولكنه هو الذي ينعت نفسه ان كان لا بد من نعوت.

***

ذلك انه عطاء التاريخ والتاريخ اذا ضغط على الوجع يعطب اما اذا أتاك بالنفحات فإنه يبقيك في عالم المعنى. والتاريخ يدعمك او يفسح للآخرين في مجال الأطماع. الأزمنة الغابرة تعطيك وعي الهوية على الا تجعل من الوطن جثة محنطة. فالهوية ترتهن لها ارتهان من لا مستقبل له او تتوكأ عليها لتنفتح لك الآفاق. في كل هوية لبس وخطر. مع ذلك لم تبدأ انت من الصفر فالعراقة قوة ومضمون فهم. والقديم فيك يعزز ارادتك في العيش المشترك ليس لأنه قدر ولكن لأنه عريق وتاليا فيه مقومات البقاء. والتاريخ القديم انكشافات الروح التي تجعلك فريدا وتجعل لبلدك خصائص، تلك التي تجعلك ترى انه تعددي ويكون من الجنون القضاء على شرائحه وعلى مجموعاته.

ولكني افهم النشاز وان تهتزالمشاركة فهناك عوامل مُركسة او نابذة اي تلك التي تدعو الى التفلت فيما وراء الكيان. هناك دائما ما يبعد الوطن عن مركزه او عن وحدته. هذا إغراء وقعنا فيه كثيرا ولم نفد منه شيئا. هذا التبدي خارج الحدود ليس فقط يمزق الوحدة ولكنه يغري محبي الكيان بالانعزالية وتاليا بالهجرة. ومعنى ذلك اننا نعترف بالهوية لكل اللبنانيين منطلقا ولا نخرج احدا من المركز بإحدى المعصيتين : الخروج من البيت او القبوع في زاوية من زواياه .

والتاريخ وحده لا ينقذ لأنه يجعلك تتذكر السيئات. ولذلك لا يهمنا منه الا صفحاته المشرقة لان فظاظة التاريخ تحمل طاقة التقسيم. والوحدة خيار يتجاوز العتمات ويصفح. فرومنسية الماضي او بعض حقباته حنينية مرضية. ولذلك كان علينا ان نأخذ من الماضي ما يوحد. هناك هوية نقرأها معا، نرتضيها ولذلك ليس من قراءة منجية الا عبر تطهر ثقافي كبير. واغراؤنا نحن ان نقرأ في اجتزاء وان نمتد الى حيث لا يجوز الامتداد او نتقلص الى حيث الخطر. ولهذا نختار الهوية معا وهذا عمل أجيال ودأب علمي كبير. ولا بد ان نختلف في ما نركز عليه من حقبات. هناك عمل اختيار للماضي وحجمه مرتبط الى حد كبير بما يفرضه العيش المشترك. فالتاريخ ليس كامل الموضوعية لأنه ينشأ الى حد بعيد من قراءة الحاضر. هو ترسيخ لما نراه حاضرنا وترسيخ للمستقبل الذي نريده.

من هنا ان حريتنا من التاريخ شرط التصاقنا بالتاريخ. هذا يبدو مفارقة ولكن لم يجمع شعب تعددي على استقراء واحد للماضي لأننا في ما نعي لا نجيء من نقطة من التاريخ واحدة ولسنا متفقين على مفاصل الماضي ولا على تثمين هذه الحقبة منه او تلك فهذا يعظم فترة وذاك يستقبحها. ولكن ما يبدو لي ثابتا ان الكيان اللبناني الذي نجمع على الإخلاص له ابتدأ من السنة 192. واما أصالتنا قبل تشكيل الكيان اي مضموننا الحضاري فهو هذا المشرق القريب المحيط بنا بما في ذلك فلسطين. نحن نجيء ليس فقط من الساحل الكنعاني من صور وصيدا وجبيل وأرواد ولكنا نجيء بالعمق نفسه من اوغاريت واورشليم وسومر وبابل ومن المسيحية والاسلام. وكل منا في وعيه او عغير وعيه وليد كل هذه المدنيات.

حقيقتنا التاريخية ميراث لكل رقعة المشرق وفي منعطف من تاريخنا هذا القديم تعرب لساننا فجئنا تاليا من الجزيرة العربية ولكنا ننقل الفحوى المشرقي الكبير باللسان العربي وحمل ادباؤنا اللغة الحديثة النابضة الى ديار العرب فهم بالتالي يأتون منا. اي ليس عندنا في لبنان تطابق بين رقعتنا وتاريخنا. نحن نرى اصولنا الثقافية والروحية ابعد من حدودنا ولكن هذه هي حدودنا بعد ان قلنا بنهائية المدى اللبناني. ليس في هذا تناقض.

ولكن ليس الوطن مستغرقا في التاريخ وان كان فيه متأصلا. انه ارادة العيش الان لأن الوطن قبل كل شيء خدمة. لبنان يومياتنا وبنية لحياة سليمة معطاء. من هذه السلامة ندخل في التعاون العربي ونندرج في الحياة العالمية بما عندنا من إسهام فكري واقتصادي. واذا لم يبدأ لبنان بالطرقات والهاتف والإنارة والإدارة الصالحة والعمران فكل شيء باطل. فإذا بقي التفاوت في الدخل الشخصي على حاله ومنا 40% من الأميين فهذا وطن لا قوام له ولا كرامة. لبنان ليس فقط معطى فالمعطى فيه لا يكون شيئا ما لم تدخل في عالم الصيرورة، في الخروج من التخلف الحاضر الى عالم العقل. نحن ليست عندنا المدينة ولذلك لم ندخل بعد كما يليق في عالم الخدمة. والبلد الذي لا يمارس الخدمة يعيش في الخطابة. الخدمة هي الانتباه الى دقائق الامور عند الانسان الآخر. هي اللغة.

لبنان مستقبل لأنه ميراث. العمل من اجل مستقبل عظيم لكل الناس هذا هو الوطن. فلبنان بلا تطلع هو لبنان المعيشة التفهة في الترف عند الأغنياء وفي أمل الترف عند الفقراء. ان يصبح الانسان إلها هذا هو سبب رجائنا الوحيد. الوطن هو مكان لصنع الآلهة او ليس بشيء.

 
Banner