Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 العلم والجهل 09/11/1993
العلم والجهل 09/11/1993 Print Email
Saturday, 11 September 1993 00:00
Share

العلم والجهل  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت في 11 أيلول 1993

فيما كان عشرون رجلا او اقل يقرأون ويكتبون في مكة وقف من نادى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (سورة الزمر، الآية 9). والعليم اسم من أسماء الله الحسنى في القرآن. انه يعلم السر في السموات والأرض. انه عنده علم الساعة وما يلج في الأرض وما يخرج منها والجهر وما يخفى. وتنتقل المعرفة منه الى خلقه. "الرحمان علم القرآن. خلق الانسان. علمه البيان" (سورة الرحمان، الآية 2). الله مصدر العلم في الإسلام. هو العلم في شؤون الدين. وانه لم يكن من تأكيد على معرفة اخرى.

لقاء ذلك الجهل والجاهلون. انه الجهل بأمور الله. والجاهلية هي زمن الجهل بالله وأخلاق الله. واذا كان هناك حديث عن الآيات الكونية مستفيض فإنه تأمل في آيات الله. اجل لا يمكن سحب ذلك على المعرفة العلمية. كذلك في العهد الجديد المعرفة هي معرفة الله بحبه وذوقه وطاعته. ان تلك العصور كانت غافلة عن  العلوم الدقيقة، غير ان المعرفة الالهية انسكبت في منطق ولغات وجاء التفسير وعلم الكلام والفقه والعلوم الدينية المختلفة والحكمة وجاءت الفنون الاسلامية. وفي  المسيحية كان التفسير ايضا واللاهوت والقانون الكنسي وكل انواع الفنون.ومهما يكن  من امر العلاقة بين الايمان والعقل  في الديانتين - وهذا لا يشغلنا هنا - الا ان الايمان أحاط نفسه بما يدعمه عند اهل الفكر وبالحجة التي تظهره للعامة. انه خلق لنا بيئة معرفية بحيث لم يكن مجرد عاطفة مصحوبة بالانفعال الجمالي، لم يكتف بأن يأتي من نافذة التأثر والحس الداخلي. انه حق أدنى تعبيري، عقيدة لها انطلاقة عقلية او ترتبط بأنظومة عقلية.

فالمناخ الديني مناخ معرفة كريه فيه الوقوع في الفولكلور ومجرد اختلاج القلب وترداد الكلمات الفارغة من المعاني ولو أتى التفسير أحيانا ضيقا، ساجنا للنفس، ضاربا لتوثباتها. لا شك ان الجهال منجذبون الى الدين فإنه يعطيهم طمأنينة وقوة وملاذا ويمكن ان يزيدهم جهلا ويذكي عصبيتهم. انه غير سليم بلا شخصية نامية، متوازنة تقوم على شيء من الوضوح الذهني والترابط المنطقي. الدين بلا هذا كله دمار. ولكنه اذا اقترن بكل هذا وبصحوة داخلية ومسعى الى الطهارة يكون معرفة وبابا الى الرؤية الالهية.

***

الا ان للمعرفة الروحية حدودا وشروطا لتصير طريقا الى الخلاص. لن تكون كذلك اذا لم يكن صاحبها مقتنعا انها ليست الحياة الالهية فينا ولكنها درب اليها. خبرتنا لله تمر بالكتب المقدسة اصلا لكي تنجو من الإبليسية. ولكنها تكتفي احيانا بقدر يسير. والمقربون الى الله ليسوا بالضرورة الأعلمين على مستوى العقل. ان فيهم علما آخر. فالله في ذوقنا او لا يكون. "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مزمور 34: 8). فالجهل بأمور الله فيه خطر كثير. انه الطريق المباشر الى الخرافة والتعصب. العلم أقرب الى ان يكون مأمنا. ولكنه دمار بلا تواضع. انه، اذ ذاك، السبيل الى الجفاف والاجترار والتفاهة الروحية.

مع ذلك كله لا يسعنا ان نثني على الجهل لئلا نظن ان في السذاجة معراجا الى الذوق الإلهي.السذاجة بعثرة كيان او فراغ كيان. وعجبي باولئك الذين يعظمونها. كأن هناك اعتقادا ان العقل المتوثب هو ادنى الى الجحود. من لا يلم بالوجود في فهم معرفة يعيش في سطحية مؤذية له وللآخرين اذ يكون فاقد تلك السوية التي تمكنه من التواصل العاطفي الناضج. ان التربية على الموضوعية ثمرة تلك الثقافة العلمية والموضوعية فضيلة كبرى لأنها تعبير من تعابير الانصاف وشرط للنفاذ الى الوجود. ما عدا ذلك تخبطات نفس وعقل وهروب من وجه الآخر وحقيقته وتاريخه. اجل هناك مراس خلقي يقيمك في العدل ولكن فهم الفكر والمواقف يحوجك الى ثقافة لا تغنيك عنها الأخلاق.

مع ذلك هناك دخول الى النفس البشرية يتوفر للروحانيين الكبار يغنيهم عن التحليل العقلي. هذا الولوج الى نفس الآخرين من طبيعة الرؤية الباطنية. الإشراق الذي يتمتع به الروحانيون يجعلهم مبصرين توا القلب البشري كما يؤهلهم لهتك حجب الزمان ومشاهدة المستقبلات. وهنا يدرك المستنيرون بالعلم الإلهي ما لا تبلغه المعرفة البشرية.

هذا يجعلهم يتفوقون في الالهيات على اللاهوتيين المحترفين اذ يتجاوزون النصوص. ليس انهم يحتقرونها ولكنها لا تبقى وسيلتهم الى المعرفة. اللاهوتي ينطلق مما جاء في الكتب المقدسة ويعتبره اساسا يبني عليه ويرى بعقله النصوص مترابطة متناسقة فيستدل ويستنتج. الصوفي وحده يرى بعد ان يهتك الحجب العقلية القائمة بينه وبين الخالق او بينه وبين المخلوق فيرى المخلوق كما يراه الخالق اذ يكون قد تطهر وبلغ شفافية تؤهله من المشاهدة. لذلك يستطيع ان يقول عن الله مع الحلاج: "انا من أهوى ومن أهوى انا". ليس انه يبطل ثنائية الخالق والمخلوق ولكنه صار الى حالة الإله في رؤيته وحبه. هذا موقع يمكن ان يبلغه من كان جاهلا عقليا.

***

اما المعرفة لشؤون الدنيا فهي متروكة للعقل العلمي وهنا لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ولا عذر للجاهل لأن المعرفة واجب ويفترضها التواضع والإعراض عنها كسل عقلي اذا توفر الاطلاع. ويتدرج الانسان منه الى معرفة الله بصورة طبيعية لأن بعضا من معرفتنا للخالق نتيجة معرفتنا للمخلوق. الى جانب ذلك علينا ان نحرث الأرض كما يقول سفر التكوين او ان نكون فيها خليفة لله كما يقول القرآن. فالدنيا بحاجة الى تطوير وتجميل ليكون فيها بنو الانسان على أفضل حال. المعرفة من هذاالقبيل خدمة والتبتل لها واجب روحي. ليست المعرفة بمتعة من اجل نفسها. الإمتاع ليس غايتها بل الغاية الرفع لشأن الانسان الذي يتعاطاها ويخدم بها.

اجل في المعرفة اغراء كبير وغرور ممكن. ولكن من وصل بها الى الذروة يدرك انه لا يعرف شيئا. العارف وحده يعرف انه يجهل الكثير. ومن ألف العلم الكثير والذوق الكثير يصل الى عتبة الفضيلة كما رأى العلامة أوريجانيس. ولذا لا مسوغ لخشية المعرفة. هذا نوع من الإخصاء لا يعود بالنفع على أحد ولا خوف على الإيمان الا اذا كان هشا وغير عميق. هناك خوف على ذلك الايمان الذي يربط نفسه بمعارف مغلوطة ولا ينقد ما كان ظرفيا في النصوص الملهمة. فالنصوص الموحاة مرتبطة بزمن معين وحضارة معينة وصور شعرية وحكايات الأقدمين. ما يواجه المؤمن هو انه يفرق بين المطلق الإلهي ونسبية الكلمات التي انسكب فيها هذا المطلق. وفي حقل الدنيا العلم وحده يتكلم. فالوحي لا يغطي كل الموجود. وتفسير الوجود بالوجود. أصل الوجود ومصيره وارتباطه بالخلاص هذا من الكلام الإلهي. واما ما كان من علم التكوين والعلوم الطبيعية فالعلم وحده يبته. فمعارفنا الطبيعية ليست موزعة بين الكتب المقدسة وتنقيبنا العلمي. انها كلها في التنقيب العلمي.

هذان حقلان مختلفان ولهما سبيلان مختلفان. فلا محل للتساؤل عما يوحد بين العلم والدين. انهما لا يقولان شيئا واحدا. ان إخلاصنا لله يشرف على مناقبنا ان نحن تعاطينا البحث. فقد تكون هناك تكنولوجيا محرمة. هناك حدود مثلا لهندسـة الجنات وحدود لاستعمال معرفتنا للذرة ولكن ليس من حد لمعرفتنا ما هو الحاصل في المورثـة (كروموزوم). التحرك التكنولوجي يبقى خاضعا للاخلاق. ولذلك تفتش الانسانية الحاضرة عن المناقبية المتعـلقة بالحياة. ان نقبل الإخصاب بالانبوب مسألة خـلقية. ان نعرف ان هذا ممكن مسألة علمية. ان نعرف الكائنات الحية مسألة علمية. اما مقدار سلطتنا على البرمجـة فهذا يتعلق بقدسية الحياة.

النص الإلهي لا يقيدنا على طريق البحث فإن شعرنا بالقيد فهذا يعني اننا اعتبرنا الكتب المقدسة مجالا للعلوم الطبيعية او الأثرية وما اليها.

هناك حرية في المعرفة كاملة. اما تطبيق المعرفة فمرتبط برؤيتنا للإنسان ومصيره الإلهي. ليس من سر في الطبيعة لا يجوز انتهاكه. وهذا آجلا ام عاجلا يقودنا الى الله الذي هو إله الحرية. اما الجهل في سبيل المحافظة على السر الإلهي فخلط بين الإلهي والبشري اي انه عداوة للانسان. المعرفة منجيتنا الآن وغدا. انها محررتنا من خطيئة الجهل.

 
Banner