Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 شبق المال 09/25/1993
شبق المال 09/25/1993 Print Email
Saturday, 25 September 1993 00:00
Share

شبق المال  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 25 أيلول 1993

على مائدة دعاني اليها صديق يتعاطى مالا كثيرا قال: "ان سكرة المال تطيش بها العقول". تجربة قاسية ما في ذلك ريب ولكنها سبيل الى تجربة افتك وأشد الا وهي تجربة السلطة وقد عبر عنها لوقا الانجيلي بصورة بليغة لما تحدث عن وسوسات الشيطان ليسوع اذ "صعد به إبليس، واراه جميع ممالك الأرض في لحظة من الزمن وقال له: اوليك هذا السلطان كله ومجد هذه الممالك، لأنه سُلم الي وانا أوليه من أشاء" (4:5و6). المال قدرة كبيرة يمكنك من شهوة اولى عرضها إبليس على السيد بقوله له: "ان كنت ابن الله، فمر هذا الحجر ان يصير رغيفا" فأجابه يسوع: "مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان". المال وسيلة الى الشراهة وما يرتبط بها اعني شهوة الجنس. ولكن الشهوة العظمى هي شهوة السلطان ولا ممارسة له بلا مال كثير. هذه هي اللحمة المنطقية والواقعية بين الجسد والتحكم. المال يغري بما يقود اليه.

رفض السيد كل ذلك معا. صام وكان صيامه اشارة الى زهده بالجسد وزهده بالسلطة. ولما نشأت الحركة الرهبانية قالت بأن الراهب يعف عن الجسد في كل جوانبه كما يتنكر لإرادة الأنا المنغلقة اذ يطيع الجماعة التي يعايشها روحيا. فالفقر والطاعة والإمساك في كل تعابيره متماسكة في عضوية داخلية كما ان شهوات الجسد والملك والسلطة متماسكة في عضوية مماثلة. وعلى هذا النحو يتعذر عليك ان تضرب عشق المال فيك ما لم تضرب عشق الجسد وعشق الحكم معا فتعرض عن إغراء المال اذا اعرضت عن النهم الذي من تحته ومن فوقه.

عندما قال المخلص: "لا تستطيعون ان تعبدوا الله والمال" (متى 6 :24) نبه الى ان العلاقة القصوى بالمال عبادة تنفي عبادة الخالق. ذلك ان الحيازة طمأنينة. واذا كثرت الحيازة غالبا ما تكون هي المتكل وتاليا يبطل الله ان يكون هو المتكل. والعبادة والعبودية واحدة من حيث الاشتقاق بالعربية والعبرية. فاذا كنت عبدا لما انت عاشقه فبالضرورة انت عابده. فاذا قال الرجل لخليلته: "انا اعبدك" فهذا ليس على سبيل الغلو ولكنه حقيقة راهنة. العشق تأليه.

***

فالمال صنم اي إله كذاب يخلع سلطة الله اذ ان علاقتنا بالرب علاقة فقر اليه ومن البداهة القول ان الغني من استغنى عن اية علاقة أكانت فوقه ام كانت الى جانبه. الغني من استغنى عن البشر. يستعملهم استعمالا لتكثر حيازته او يقوى سؤدده. الغنى اذا ذهب بنا الى ان نختبره بصورة مطلقة اي ان نحس به اكتمال وجود يجعل خلاصنا مستحيلا. ولهذا عندما قال المسيح: "ان يمر الجمل من ثقب الابرة أيسر من ان يدخل الغني ملكوت السموات" (متى 19: 24) لم يكن ليأتي بما يعسر الخلاص على هذه الفئة من الناس ولكن من باب انه كان يلاحظ فقط استحالة الجمع بين عبادتين.

كيف تحصل المعجزة فيخلص بعض من اغنياء؟ الجواب القطعي هو ان الغني اذا صار معطاء لا يبقى في طبقة من استغنى ولكنه غدا من المحبين اذ بات، بما يعطي، محتاجا الى الله والناس معا، فقيرا الى من كان فوقه ومن كان اليه. لا خلاص من وطأة الغنى الا بالحب الذي يجعلك وحده وريث الله.ان ترث الله يجعلك تؤثر الآخرين على نفسك. هذا هو المعنى الوحيد لقوله: "احبب قريبك كنفسك". فان الله الذي يجيء كيانه الأزلي بأنه محبة المحبة لنفسها "لم يشفق على ابنه". وكما وجد المسيح نفسه بإهراق نفسه كذلك يستعيد الغني ذاته المفقودة اذا سكبها عند اقدام المساكين.

عند هذه الرؤية يزول الاعتراض التافه الذي يرد على ألسنة بعض من الأثرياء: ماذا يبقى لي ان أعطيت كل مالي؟ ألا يكون المال قد انتقل من يد الى يد؟ المهم الا تتمسك بشيء مما انت قابض عليه، ان تتروض على الزهد بما انت معطيه. ما يرومه الله من كل هذا هو حركة قلبك الذي ينبغي ان يكون فقيرا. ما يسره الا يصعد مالك من يدك الى قلبك وقلبك كفيل بأن يبقي لك ما انت تحتاج اليه لتحافظ على وصية الحب.

ذلك ان الرب الذي يمقت الكسالى يريدك في عالم الانتاج، عظيما فيه لأن هذا ينمي العالم ويفرح الناس وفيه إبداع كبير وجهد كبير وقدرة على العدل. الله يريد وفرة في الأرض: "انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على اسماك البحر وطيور السماء ... ها قد اعطيتم كل عشب يخرج بزرا على وجه الارض كلها" (تكوين 1:82و92). مشكلتنا ليست بوجود الثروة العظيمة. بالعكس مشكلتنا مع العوز لأنه يقتل النماء البشري. المسألة هي حول حركة الانسان بما تنبته له دنياه. السؤال الخلقي لا ينطرح الا مع الاستهلاك. هل انت فيه رجل المتعة؟ هل تفنى ذاتك في ما انت مستهلكه ام ترى الى البشر على انهم شركاؤك في ما وصل اليك من هذه الدنيا.

***

عندما تتحرك مادة هذا العالم تصبح في نطاق الروح. فالسؤال الوحيد هو كيف انت تبقى روحا وانت وهذا العالم في تماس يذهب احيانا الى الانتاج الكبير. هناك موقفان اذا تمكنت منهما بصدق وعمق يجعلانك من روح وهما التقشف وإعراضك عن المجد الباطل وهما واحد. اما المجد في تفاهته فتعرفه المآدب الكبرى والأعراس الفاحشة والتباهي بالملبس والسيارات والعلاقات والخادمات والخليلات. الانتفاخ بكل هذا ينشأ من كونك تعترف بقيمة ما لا قيمة له. فليس من محبة ممكنة في الافتخار كائنا ما كان. فاذا قال الله "سأبيد حكمة الحكماء وازيل فهم الفهماء" (1كورنثوس 1: 19)، اذا حرم علينا الاعتداد بالثقافة يكون من البداهة ان يمقت استعلاءنا بسبب ما نملك.

ولا سبيل الى العفة عن المجد الا بالتقشف، ذلك الذي يجعلك في مشاركة للفقير مباشرة. هذه النفس ان متعتها تستكبر وان حرمتها تشف وتفهم. ان تعطي ليست قضية مقادير تنفقها في نسبة تريح ضميرك. القضية ان تصبح حرا مما انت تقلبه بين يديك. فاذا احسست انك تكتسب حريتك منه بالتخلص منه فافعل. واذا شعرت ان سلامك الداخلي يزيد بالحرمان فابعد عن الطيبات. حسبك الله.

غير انك لست بالغا قمة الحرية الا اذا صار الله مستقرك فهو الذي يأمنك من عوز ومن العبوديات على ألوانها. الحرية تقوم بحركتين: بتجرد دؤوب، مطرد، قاسٍ مما انت عاشقه على الأرض وبحركة الى الله حتى عشق منك له يبيد فيك كل عشق آخر. بلا هاتين الحركتين المتوافقتين انت تحت وطأة المال.

اذا ادركت هذه الحرية منه تكون قد ضربت آكلة الجسدانية وآكلة السلطوية بآن. تكون قد أكملت فيك السموات والأرض.

 
Banner