Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

السلام 11/06/1993 Print Email
Saturday, 06 November 1993 00:00
Share

السلام  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار لسبت 6 تشرين الثاني 1993

السلام اسم من اسماء الله الحسنى في القرآن. وفي العهد الجديد المسيح سلامنا ويتحدث بولس عن رباط السلام وعما يجمع بين اليهود والأمم اذا هم تنصروا. المفهوم في هذا الأدب مفهوم علاقة. اما في بقية الكتاب فمضمون السلام اعم او اعمق من ان يكون مجرد صلة عدم حرب او عدم خصومة، تلك الصلة نتيجتها اطمئنان الانسان الى الآخر. السلام في الكتاب المقدس هو ملء الحياة. انه وضع في الأرض يعكس الرضاء الالهي فاذا قال السيد للمرأة التي بلت قدميه بدمعها ومسحتهما بشعرها: "اذهبي بسلام" فهو لا يتحدث عن سلامة نفسية ولكن عن حياة جديدة فيها تأتيها من بركات تنزلت عليها بالهداية. هكذا ايضا حديث يسوع مع المنزوفة: "ايمانك خلصك، فاذهبي بسلام". وكأنه يقول: اننا صرنا في الايام الاخيرة وقد أقبل الملكوت. دخلت اليه بالايمان. تمسكي بالامتلاء الروحي الذي يأتيك من المسيح الملك. هذا هو لاهوت لوقا.

المسيح سلامنا ليس فقط بما يؤتيه. حضوره هو السلام. فبعد ان قال في العشاء السري بصورة مطلقة: "السلام استودعكم" قال "وسلامي اعطيكم" هذا لاهوت يوحنا فالسلام ليس مجرد رباط. انه اتحاد يصبح المؤمن به هو نفسه سلاما اي ملء صفاء وحب. المسيح يسكت الرياح والعاصفة وتنطفئ الشهوة ويهدأ البحر ويزول من النفس كل نتوء للعدوانية لأنك اخذت تبصر محبوبية الناس في رؤية الله لهم. اذا كان يوحنا ذروة الانجيل وخلاصته وبلوريته يكون السلام حقيقة المسيح فالسلام وحده يحب وبهذا الحب الالهي تنوجد ونتكون وقد خرجنا من العاصفة ومن الفصام.

ويذهلك في أطهر الرهابين او من كان على رهبتهم انهم في سكونهم وبسبب من سكونهم، اشد الناس حماسة وأدناهم الى النار، تلك الالهية بعد ان انطفأ فيهم لهب الشهوة اية شهوة فباتوا لا يخشون احدا ويكلمون كل واحد بالحق لأنهم يعرفونه خلاصا لكل انسان في العالم. صفاؤهم هو الشهادة على سكينة الله. انهم لا يقولون قولا لغويا. يقولون الوجود وكأن العالم كله مخلوق ليبلغ بعض منا الموت الكامل للشهوات المؤذية حتى لا يبقى فينا الا اشتهاء الله الذي به "نحيا ونتحرك ونوجد".

ماذا في الحياة السياسية اذا استعملت لفظة سلام؟ تدل على صلة الهدوء بين دولتين او اكثر او على السكينة بين جماعات عرقية او لغوية او دينية. لم تمض فترة طويلة في هذه البقعة او تلك من المعمور لم تعرف الانسانية فيها الحرب. فالقتال هو الوضع المألوف للبشرية والسلم استثناء وكأن ما سمي المدنية حلم من احلام الانسان، تهذيب مصنوع موضوع على شراسة أصيلة. المثل الروماني القديم: "الانسان ذئب للانسان" هو القاعدة لأننا نكره المختلف ونريد اسكاته او اخضاعه او إماتته لأن الانا قهار ولا يقبل الـ"انت". الأصل ان احيا انا دون سواي، ان امتلك، ان اتجبر، ان اشتهي. عكس ذلك السلام الذي هو إقرار بوجودك، بمعايشتك في دنيا يصورها لي العقل المستنير على ان لنا كلينا حضورا فيها بالمشاركة.

***

الأصل في الوجود المجتمع المغلق الذي يعيش بالدفاع عن نفسه والدفاع يتطلب الغزو حتى لا يبقى ملك رمزا لكيانك ولا امرأة رمزا لانتعاشك. الفتح ارادة لإقامة المدى لفريق لأن المسكونة في ذاكرة الشعوب امبراطررية واحدة فقد فوض واحد بامتلاك الأرض والاستمتاع بها وكيلا او خليفة لله مالك السموات.

الحرب مبتدأ القلب البشري وبسبب من قدمها واستمرارها وانتشارها رأى الانسان طبيعيا انه مأمور بها من الآلهة او الاله الواحد لئلا يتفلت شبر ارض من هيمنة السماء. وما صح على صعيد العالم يصح داخل البلد الواحد حيث كل جماعة كانت في البدء منغلقة لآن الآخر عدو منطلقا، لأنه هو الجحيم. ما قاله هنا جان بول سارتر ليس سوى الواقع الاول. قد تحس الجماعات ان الحياة المشتركة من صالحها فتقررها تقريرا عقليا فإن صالح الجماعة بدءا هو موت الآخرين. بإعمال العقل قد يكون للآخرين حياة. كل ذلك لدعم الانا الجماعي الذي تفنى فيه الأفراد. القبيلة او العرق او الطائفة او الحزب وجود صامد او يبدو كذلك يتخذ منه الفرد حياته وازدهاره وثباته. ولهذا يموت الفكر الشخصي في القبيلة وما يشبهها.

جاءت الحضارة غطاء فوق هذا ويبدو - من حقبة الى اخرى - في الهياج العميم ان الناس اقتبلوا الحضارة عقليا ولم يتمثلوها تمثلا وعاشوا فصاما رهيبا بين غرائزهم وما ارتضته اذهانهم. ان ضبط الحقد الطبيعي عند الأفراد والجماعات أمر غاية في الصعوبة لا تحققه الا قلة من الأشخاص وقلة من الجماعات والأمم. ان الارتقاء من المجتمع المغلق كما يسميه هنري برغسون الى المجتمع المنفتح محاولة تنجح حينا وتخفق احيانا. ان اقواما كثيرة لا ترى لها ثباتا الا بالثأر او التهيوء للثأر. تتخذ زخمها من البغض. ينفجر عندها انفجارا او ترتب تفجيره في تصميم "حكماء" تسلموا مصير الجماعة.

ولا ينفع في هذا دين. فالدين ايضا غطاء. في حالات كثيرة وظيفته ان يضع الحجج العقلية او التاريخية لتفجيرات مقررة. فاذا انت ربطت الطمع الجماعي باسم الله لا يهديك عقل ولا يلطف عداءك آية. الكلمات "الالهية" تستدعى لدعم مواقف نبعت من هياج القبائل. الدين بعد نزوله على وكر الأفاعي الذي هو القلب البشري يطلق الأفاعي ويتكلم متكلموه ليزكوا انطلاق الحيات.

لم أجد فرقا على صعيد السلام بين اهل الدين واهل الإلحاد. والرؤية التاريخية العصرية تدل على ان الكثيرين من الملحدين أقرب الى القيم السلمية من المؤمنين. ومهما يكن من امر فالثابت ان السلام الروماني الوثني كان اضمن للحريات الدينية من سلام اديان التوحيد. والامر الثابت ايضا عبر التاريخ كله ان الذين لم يعرفوا التوحيد ما خاضوا الا 15 % من الحروب والأديان العارفة بالله خاضت البقية.

***

الانسان مبيد للانسان. ودين الآخر سبب لابادته او قمعه او ان نظهر عليه او ان نهشمه ولا نشركه بالرأي. ما جرى في الماضي من صراع بين الشعرب وما ينبعث الآن لدليل على كوننا وحوشا في هذه الغابة الكبرى التي سميت خطأ انسانية بلغتنا اذ لا يأنس فيها أحد للآخر.

لن ينتهي الصراع في تحليلنا للوضع العالمي او الوضع الداخلي في كل امة او في البقاع التي ظهرت من تفتت الشعوب. السكينة تأتي من الله معجزة وفضلا. هذا هو مفهوم الملكوت في الكتاب العزيز. قد تتم مصالحات هنا وثمة. قد تتوافق المصالح وتتسع المنفعة لإقامة تحالفات. قد يقوم صلح الجماعات والطوائف والقبائل على فهم واحد لخير الوطن. قد تظهر هذه الوصفة او تلك. انها مساع لا بد ان نسعى اليها. ولكن السلام العميق الأخير لا ينزل علينا الا من" الله الذي لا إله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن" (سورة الحشر، الآية 23).

جماعاته، طوائفه، القائلون انهم المؤمنون به لن يصيروا الى سلامه الا اذا نزلت عليهم سكينته في توبة تاريخية كبرى يقول لنا الانجيل انها الملكوت.

 
Banner